التصنيفات
رؤى

مخازن الأصدقاء

أنا لا أصنف الناس التصنيف السلبي الذي يمنع التواصل معهم، ولكن كشخص منظم أنادي دائماً بالمعايير فأرتب كل شي حولي، ويدخل في ذلك العلاقات الإنسانية والأصدقاء.
جوالي، بريدي الإلكتروني، مفكرتي، تحتوي مجموعة من العناوين، ولكن هذه العناوين لاأضعها بشكل عشوائي، بل أصنفها بعدة طرق. ولتجنب مشاكل الوصول إلى المعلومة تعلمت جزئيات في البرمجة تساعدني على القيام بتنفيذ برامج أضع فيها المعلومات التي أستخدمها في حياتي  اليومية في المنزل والعمل.
الحياة بالنسبة لي عملية إدارية في كثير من النواحي، ومن هذا المنطلق ربما يمكن أن أشبه العلاقات الإنسانية بإدارة المخازن.
ابتداءً من المباني المصممة خصيصاً لأغراض التخزين والتي تشبه النفوس في وضعها لمعايير المحتوى، والتي هي الصداقة عند البشر، واحتياجاتها للأصدقاء، مروراً بأنظمة التخزين والتصنيف والترقيم، وانتهاءً بإجراءات الجرد ومراقبة المخزن وعمليات الصرف وغير ذلك. ولتوضيح الصورة سأشرحها ببساطة.
إدارة المخازن تتكون من النقاط الآتية:
–    أليات: وتشمل المباني، والمعدات.
•    المباني.. وهي كذلك في نفوسنا فالنفس بناء يختلف في تصميمه من شخص لآخر.. فهناك الشفاف الذي ترى من خلاله مايدور فيه، وهو حساس لأي خدش. وهناك الحديدي الجامد، البارد في عواطفه، الجارح لغيره والبعيد عن الآخرين، وهناك المسلح الجميل في الظاهر الخشن في التعامل، وهناك الخشبي، ملاذ لكل الأفكار الدخيلة تعشعش في رطوبته، فيتآكل ويضم في أركانه أنواع الحشرات والسموم.
•    المعدات.. وللتعامل مع المخزون السلوكي وقوائم الأصدقاء نستخدم معدات مختلفة ولكل آلة استخدام وأثر، فالرسالة، والمقابلة، والبريد، والابتسامة، واللمسة، ليست سوى أدوات تفتح قلوب من حولنا للتعامل معنا.
–    المواد: وهناك في النفس نوعين من المواد نتعامل معها وهي:
•    أفكار.. وهي متنوعة بتنوع الشخصيات التي نحتك بها في البيئات المتنوعة.. العمل، المنزل، الدراسة، الشارع بكل أطيافه وطبقاته، ابتداءً من موردي الحاجات الأساسية كالبقال، الخباز، وغيرهم، وانتهاءً إلى البنوك، المؤسسات، الشركات، والدوائر المختلفة.
كل واحد من هؤلاء يترك بصمته.. وأحياناً لايتركها بصمت.. بل بضجيج وتغير في السلوك ظاهر.
•    سلوكيات.. وهي طريقة كل مورد في التعامل مع المعطيات.. ويتم الاقتباس والتبعية والتقليد، في الأخذ والعطاء.
وهذا يشبه المخازن أيضاً.. فهذا التنوع يأتي من نفس الموردين في الحالتين، ولكن باختلاف كميات البضاعة الواردة، ونوع البضاعة إن صح القول. فهناك تورد مواد استهلاكية.. وهنا تورّد افكار وسلوك وتقليد إيجابي أو سلبي. وتترسب المواد في القلوب كما تترسب في أرضيات وجدران المخازن. ويكتسب كل مخزن طبيعة ورائحة مواد المخزون.
–    عمليات: ومن ضمن العمليات التي يمكن أن تتم في النفس أو في التعامل معها:
•    الحب والقبول.. وتفضيل منتج على منتج، أو تقديم موردّ على آخرين، وكذلك الشعور بتفصيل العمل في منطقة دون منطقة ضمن المخزن الواحد.
•    التفكير والاهتمام.. في العمل، وفي البشر الذين يتعاملون مع العمل، أو التحليل لموقف واتأثر بسلوك، والتغير وإحلال نظام إداري أو سلوكي محل آخر.
•    الزيارة والاتصال.. وتحديد مواعيد للاستماع للآخرين ورؤية مالديهم، وهي كذلك في النفوس، ووقفات التأمل والمصارحة تمثل زيارات الموردين.
–    إجراءات وقوانين: ولتتمكن المنشآت من ضبط عملية المخزون يتم وضع القوانين التي تنظم العلاقات، وهي مانسميه اللوائح، ومن ذلك على سبيل المثال:
•    مايأتي أولاً.. يصرف أولاً. فالأصدقاء القدامى هم الأصل في التعامل، وهم الملجأ الأول في علاقاتنا إذا واجهتنا الحياة بهمومها أو بهجومها.
•    أوامر الصرف.. فلا شي تقدمه النفس مالم يكن هناك أمراً به، أو بصورة أخرى مسوغاً له، حتى النفوس الطاهرة إنما تبذل طمعاً في الاخرى، وبأمر الله عزوجل.
ليست هذه الإدارة الأولى التي تشبه الإنسان، ولكنها إدارة أخرى يمكن أن تنظم بسهولة بالرغم من مخاطر المواد المحفوظة فيها. بينما أقف للمرة الألف أمام النفوس وفي يدي أوراقي وأقلامي.. أمسح رأسي لأحاول التعرف على الكيفية المثلى في إدارتها.

 

(الصورة بعدسة: رامي)

التصنيفات
رؤى

السحاب

نظرت لأشياء كثيرة في السماء.. حتى القمر في ليالي اكتماله كنت أراقبه وأنا أنتظر بخيالي الطفولي مركبة تخرج منه لتؤكد ماكنت أقرأه في فترة الطفولة، راقبت السماء كثيراً بحثاً عن سوبرمان والرجال الخارقين.. ولكنني لم أجد فيها غير السحاب والنجوم والقمر الذي رافقني كثيراً بعد ذلك.

وحدها السحاب كانت تمثل الكائنات مستوطنة السماء في الحقيقة.. فهي التي أراها في كل وقت.. في النهار وهي ترحل من مكان لمكان متشكلة بصور عديدة، قد لاتكون صوراً بقدر ماكان خيالي يصورها.

السحاب الأبيض جميل كالراحة، بعيد كالسلام، رقيق كالطفولة، ولكنه متكبر بعيد.. حين تملأه تجارب الرياح سيكون أسوداً كئيباً، وحين يتثاقل سيسقط ويتخلى عن كبريائه وغروره.. وقتها ستنتفع الأرض به، وسنفرح جميعاً بوصوله ونشعر بذلك أكثر من شعورنا بحركته في الفضاء.. هكذا نتعلم أن منفعة الأشياء من حولنا تكون بقدر استفادتنا منها وليس بقدر مانراه من جمالها.

ليس كل ابتعاد غرور.. فالسحاب الخفيف يبتعد ليتكثف الماء ويصبح ممتلئاً ومستعداً للنزول فيهطل ثانية.. كان الأمر أشبه بانتداب في العمل.

السحاب الأبيض كالقلب الأبيض سيظل مرتفعاً مهما تلاعبت به الرياح.. لكن السحاب الأبيض سيسقط مهما ارتفع، مايحمله في داخله سيجعله ينهار ذات يوم.

السحاب الأبيض كالصورة البعيدة، نراها ونبتسم لتشكيلاتها، ولكننا قد لانستفيد منها مباشرة.. السحاب الأسود ننتظر هطوله ونفرح به.. نعد لاستقباله ونباشر الطقوس المتوقعة لآثاره.

السحاب الأبيض جميلاً في تشكيلاته.. والأسود لايخلو من جمال كذلك، كما أن آثاره أكثر وضوحاً.

كلما خف السحاب ارتفع، وكلما ثقل هبط، وكذلك القلوب الخفيفة ترتفع عن الأرض، وكلما امتلأت أخذت في الهبوط.

لاتنخدع بالمظاهر.. فالسحابة السوداء تحمل الخير داخلها.. تجاوز المظهر واللون الجميل وفكر في الداخل والمكونات والمنفعة.

 

(الصورة بعدسة: عبدالله الشثري)

التصنيفات
رؤى

الأسهم والخطوط

لم أحب من الجغرافيا إلا الخرائط.. وحين درست التأريخ تابعت أسهم الفتوح.. كنت أحب ألوان الخريطة.. أحب رسم الأسهم والخطوط.. حين كبرت عرفت الفرق بين أسهم الخريطة القديمة وخطوط الخريطة الحديثة.. كانت الأسهم ترمز للفتوح.. بينما ترمز الخطوط للاستعمار.. حتى في الخريطة انكسر رأس السهم وأصبحنا بدون سلاح.

تأخذ الأسهم مدى أوسع في حركتها، وكذلك الفتح يتحرك في حرية ليضم مساحات تحقق الانتشار، بينما تنكسر الخطوط في عنف مجبرة على التراجع أمام يد مستعمر يقسم قطعة من هنا وأخرى من هناك.. كل زوايا الإنكسار حادة، خاضعة، راكعة متعبة..

تشكل الأسهم لوحة من الاتساع تنطلق من نقطة واحدة.. تعطي دلالة على الوحدة.. والاشارة للأمة الواحدة والانتماء للمكان الواحد، للمصير الواحد، للدين، للغة، بينما تستقل الخطوط لتعطي مزيداً من التفكك في العلاقات.. وغياب كامل للانتماء.. فلا وحدة دين، ولا لغةً واحدة، ولامصيراً مشتركاً بين الأجزاء المحاطة بالخطوط..

كان السهم يمتد في خط واحد ثابت في مساره، عزيزاً قوياً.. كأنه يحفر الرمل ويشق الجبال، إذا أمسكت بطرفه وصلت نهايته، بينما يرسم الخط متكسراً متقطعاً ذليلاً لايرتبط بنفسه فضلاً أن يكون مؤدياً لمكان واحد.. قطع متتالية يمكن عزلها عن بعضها دون أن تشعر القطعة بالأخرى، تشعر حين ترى الصورة أنك أمام جسم مرقع، وليس وشياً مطرزاً.

وتعطي الأسهم انطباعاً بالحرية، وشعوراً بالراحة، وتحيط الخطوط بالأرض فتخنقها.. وخريطة الأسهم ذات لون واحد.. لايتغير إلا بتغير طبيعة الأرض الجغرفية، بينما تتلون خريطة الخطوط لألف لون، كل لون منها يكون أمة منفصلة عن الأخرى، ترفض الاندماج مع بقية الألوان، وتنبذها الألوان من حولها.

ارتبطت الأسهم بالفتح، بالخلافة، بالرسل، وانصهرت الخطوط في الحدود، والأرض، والمصالح.. انطلق الناس بامتداد الأسهم باسم واحد، وجواز سفر موحد، وقسمت الخطوط الخريطة إلى دول وجوازات، وأسماء وجنسيات، ووقفنا على الخطوط المتقطعة نعجز عن العبور من خلالها، بينما كانت الأسهم تشق الأرض أماكنا لتنقلنا لأي بقعة وصلت إليها.

وجهّ الأسهم قانون واحد، مركزه العاصمة، ويحكم به القضاة في كل مكان، وتعددت مصادر التوجيه للخطوط، كل بقعة مستقلة، وتحكم بقانون دخيل عليها، وضعه لها من رسم الخط لحدودها.. من رسم الخطوط وضع قوانين تضمن له مايريد، ومن أرسل الأسهم كان موجهاً منذ البداية بالوحي، يأمره بالفتح ونشر الإسلام.

تقدم الأسهم يعطي شعوراً بالجماعية لايقل في روعته عن تراجعها.. كتلة واحدة تتحرك معاً، يحمل همها رأس واحد، يقودها ليخرج بها سالمة قدر المستطاع من العقبات التي تواجهها.. بينما تشتت الخطوط بلا قائد في المساحات الصفراء الكبيرة، هذه الصحراء قاتلة في الطبيعة أو في الخارطة.. هنا التيه قاتل لمن لاقائد له.

 

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)

التصنيفات
رؤى

الإنسان الظل

كل ماتحتاجه لكي ترى الظل مصدر إضاءة مسلط عليك، وقتها يمكن أن ترى ظلاً أسوداً يرتسم على الأرض. ولكي ترى ظلال شخصيتك لابد من توافر نفس العوامل، ضوء يسلط عليك ليظهر منك مالم تكن تعرف عن نفسك. يمثل الظل الجوانب الخفية في شخصياتنا، ويظهر كاستجابة للمؤثرات في حياتنا، بينما يمثل الضوء المؤثرات المحيطة بنا، بمعنى آخر عوامل الخوف والطمع.

في داخلنا تختبئ العديد من الشخصيات، تأخذ صوراً تتوافق مع المعطيات الخارجية، تمثل المعطيات مصدر إضاءة يسلط علينا بين فترة وفترة، أو بالأصح يسلط على من يبقى في المساحات المكشوفة معرضاً للمواقف المتعددة. الظل لايتكون في الظلام، وكذلك الشخصية المترددة الغامضة لاتتكون مالم يبهرها ضوء الرغبة أو الرهبة أو كلا الأمرين.

قد ننكر الظل في شخصياتنا، ولكنه موجود.. وبالرغم من انه موجود إلا انه لا وزن له، فتسارع الاضاءات وتنوعها شتت نظر المشاهد، ومالم يكن هناك باحث يستقصي خلف شخصية بعينها ليتعرف عليها عن قرب فلن نشعر بالازدواجية في شخصياتنا.

تتكون الظلال بحسب عدة عوامل ومنها:

  1. زاوية الاضاءة.
  • الضوء المسلط بشكل مباشر بزاوية 90ْ يؤدي إلى ظل صغير، تماماً كالتهديد الذي يسلط فوق رؤؤسنا لتختفي معه شخصياتنا.
  • الضوء المسلط من بعيد وبزاوية 180ْ يجعلنا أكثر جرأة. ويرتسم خلفنا ظل طويل، وكلما أقترب المصدر كلما واجهنا الحقائق وصغر ظلنا، وانقطع الأثر.
  • الظل لايأتي من الداخل، لأن الداخل مؤمن، وبالتالي لن نجد ارتساماً علوياً، هي السيطرة التي نفرضها على من تحتنا فلا تخرج منهم مؤشرات. إن المؤشر الذي يأتي من الداخل يعني انهيار الإنسان، تماماً كالفساد في الأسرة الذي يؤذن بسقوط بنائها.
  1. بعدها وقوتها. فكلما اقترب الضوء بدت شخصية الظل أكثر تركيز، فالتناسب طردي إذاً، وهي طبيعة إنسانية يسلكها البعض ممن يفضل أن يبقى بعيداً عن الأذى
  2. وللمكان دوره في تشكيل الظل ايضاً. فاتساع المكان، وإضاءته، لها دورها ايضاً في التأثير على شدة الضوء قوة وضعفاً.

مصدر الضوء هو المواقف التي تمر بنا، وتتنوع المصادر والمميزات بين سلطة، وإغراء، ويتم التعامل مع الإنسان حسب نوعه، أو ميوله، أو مايؤثر عليه. وينبغي ملاحظة الآتي:

  • الظل أسود كالنفس المختبئة في داخلنا، سوداء لاملامح لها، وهي ليست سوى أثر للنور المسلط تجاهها.
  • الشخص متعدد الظلال، بسبب تعدد المصادر.
  • الظل هو الشخصية الجديدة التي نرتديها في مواجهة مواقف الحياة. لكنه ليس حقيقة، أعني أنه غير ملموس، وسواء أكان صغيراً أو كبيراً فهو ليس سوى مساحة سوداء تتبع الأصل، وفي الشخصية يعود الإنسان لمواقفه الأصلية وتوجهاته التي يعرف بها، فليس ظله سوى عباءة ارتداها في موقف وسارع بخلعها نتيجة ظهور موقف جديد يختلف في أبعاده.

الإنسان مُكلف، فيفترض أن يكون لكل صورة حوله أثرها التربوي في تكوين شخصيته، أن يصل إلى الاستقرار النفسي، ولن يكون هذا إلا أذا عرف مميزاته ومايؤمن به من المبادئ. ومالم يحدث ذلك فسوف يصل لمرحلة الإنسان الظل، أي الشخص الغائب الملامح الذي يركب كل موجة ويسبح مع كل تيار.

(الصورة بعدسة: بشرى محمد)

التصنيفات
رؤى

الآلة

آلة.. كبيرة أو صغيرة تعمل في انتظام.. وترتيب.. كساعة حائط مثلا.. لو نظرت في مجموعة القطع المحركة لها لوجدت عددا كبيرا من التروس والأدوات.. تعمل معا في منظومة رائعة دون أن يراها الناس.. ترس كبير سيكون أول ما تراه لو فتحت صندوقها.. وترس صغير ستبحث عنه طويلا حتى تراه لكنه يظل يعمل بجد وبصمت دون كلل ودون انتظار شكر أو لفتة من أحد.

وكذلك هو حال العمل الإسلامي إذ يحوي عدداً كبيراً متفاوتاً في حجمه التربوي والتعليمي والمهني تعمل بمجموعها في نظام ينتج عنه دقة وجمال. هذا الترس الصغير الذي لا يعرفه أحد ولا يراه أحد له دور لا يستهان به فلو توقف لتوقف معه العمل ولسكنت الآلة أو لاختلطت وأعطت نتائج غير مقبولة.. وغير مرضية.. وسواء عرفنا الناس أم لا أشاروا إلينا أم بقينا في طيات الآلة فكل منا له دوره مهما كان مستواه.. ثقافته.. تربيته.. تعليمه.. مهنته.. ووو.

إنك لست مشاهد.. إنك ترس ضمن القائمة.. منذ أن أعلنت هويتك الإسلامية فأنت معنا شئت أم أبيت فكن ترسا منتجا.. عاملا.. لا تحقرن نفسك أو تعجز.. وسيرى الله عملك.. والمؤمنون.

(الصورة بعدسة: سديم البدر)

التصنيفات
رؤى

الوردة

سعادة الأشياء باجتماعها.. هكذا تعلمت.. فالأسرة تسعد حينما تكتمل وتجتمع معاً.. والحي يسعد باجتماع بيوتاته.. والمدينة تسعد باجتماع أحيائها.. والدولة تسعد باجتماع مدنها.. والقارة تسعد باجتماع دولها.. ويمكن القياس على ذلك ولن ننتهي. وعلى كل المستويات يشعر الإنسان بسعادة الاجتماع فابتداء من الذرة واجتماع الجزيئات إلى الكون وتحلق النجوم لتكوين المجرات..

ولكن دعونا نأخذ مثلاً بسيطاً ويمكننا الانطلاق فيما بعد.. فالوردة جميلة في غصنها ولكن جمالها هذا لايستفيد منه الجميع.. هل تتألم الوردة عند قطفها وابتعادها عن غصنها؟.. ربما وربما تنسى ألمها عند رؤية عدد الأشخاص الذين سيسعدون بقطفها.

إذا ليس كل ابتعاد عن المحيط مأساة.. وليس كل تغرب ألم.. هذه الوردة كانت مشرقة في الغصن، ولكن ستموت بعد أيام.. والأشواك التي حولها كانت ستمنع الاستفادة منها ولكن بعد قطفها شذبت أطرافها وأحيطت بنباتات زينة زيادة في إظهار حسنها..

سيسعد بهذه الوردة الأم حينما تهديها لها ابنتها.. وسيسعد بهذه الوردة الفتاة حينما يهديها لها زوجها.. وسيسعد بهذه الوردة المجتهد حينما تكون جزاء له على اجتهاده.. وسيسعد بهذه الوردة كل ناظر إليها.. أو مستنشق لعبيرها..

وربما كانت هذه هي الحال بالنسبة لتغربنا.. إن انشقاق نجم عن مجرة هو إيذان بولادة مجرة جديدة.. وابتعاد فرد عن أسرة هو بداية أسرة أخرى.. وتغربنا هنا وهنا في سبيل مبادئنا إنما هو حياة لغيرنا ممن ستصلهم الدعوة، وسيبلغون أمر الله. إن الدعة والراحة ليست مطلب داعية مجاهد باع نفسه لله يرتقب الموت في كل لحظة.. ومن هنا وجب علينا تعويد النفس على غربتها، والتلذذ بهذه الغربة.. نعم نحن ونشعر بشوق.. نتألم ونشعر بمرارة.. ولكن أمة من الأمم تأنس بغربتنا.. وتلتقي برحيلنا عن أوطاننا..

 

(الصورة بعدسة: رهف الشبل)

التصنيفات
رؤى

حقيبة الأدوات

لكل مهنة أدواتها، والتعبير بحقيبة يأتي على نوعين:

  1. أن تكون حقيبة حقيقية.. ويراد بها الأدوات التي يحملها الطبيب، النجار، الميكانيكي، وغيرهم.
  2. أن تكون حقيبة مجازية.. وهي تعني في هذه الحالة المؤهلات التي يتمتع بها أصحاب المهن وتميزهم، كالدقة في الساعاتي، والقدر على التحليل عند الاقتصاد.

من مميزات الحقائب المهنية الآتي:

– الوجود والخصوصية.. فلا بد من وجودها سواء المحسوس منها أو المعنوي، فلكل صاحب مهنة أدواته التي ترافقه، بل قد يتطور الأمر ليكون له حقيبة خاصة لايسمح لزملائه بالاستفادة منها، وذلك لضمان الجودة والسلامة والعناية وغير ذلك.

– التقدير والسمت.. فبدون هذه الأدوات لايستطيع الفرد أن يمارس مهنته، ونجد كل مهنة تعرف أنواع الأدوات فتختار أجودها، وتتأكد من المصنعين والمواصفات. ولا يتطاول أصحاب مهنة على أخرى، لينتقص من
أدواته، فلم نر طبيبياً يعيب على كهربائي أنه يحمل أسلاكه معه، ولم نشاهد مهندساً يستهزئ على طاولة الخباز. بل يترك الأمر لكل إنسان ليحدد محتويات حقيبته، وإذا لزم الأمر اتصل المتضرر بأصحاب الاختصاص، ونقده ثمن الخدمة التي يقدمها.

– التصنيف والترتيب.. فلكل أداة مكانها في الحقيبة، ولكل أداة مواصفاتها في العمل والتصنيف.

أمر واحد اختلط على الكثير من الناس وأصبح أصحابه يعانون من تدخلات الآخرين فيه، وهو العلم الشرعي والفتوى، فالبعض لم يراع ضرورة توفر الأدوات الشرعية.. ومنها على سبيل المثال:

1. العلم بالعقيدة ومعرفة التوحيد وتجنب الشرك ومنها الآتي:

  • معرفة الله سبحانه وتعالى وأسماء وصفاته، والفرق بين الألوهية والربوبية، وما يترتب على
    ذلك.
  • معرفة الأنبياء وحياتهم، ودعواتهم، ومايحتاج إليه.
  • معرفةاليوم الآخر والجنة والنار والبرزخ والحياة الآخرة بشكل عام.

2. العلم بالقرآن الكريم من حيث:

  • حفظه واتقانه.
  • معرفة أحكام تفسيره وأشهر مفسريه، ومناهج التفسير، وأثر ذلك على الحكم الشرعي.

3. العلم بالحديث النبوي من الناحيتين:

  • الأولى: نص الحديث واتقان حفظه.
  • الثانية: العلم بالمصطلح، ومعرفة رجاله وأحوالهم ودرجاته، وأحكامه، وثبوته، والعلم.

4. العلم بالفقه وأصوله والاستنباط والقدرة عليه، والربط بين المختلف، والاختلاف في الأحوال والأحكام.

5. العلم بالعلوم المكملة، كالتاريخ، والرجال، والدول، وماوجد فيها من بدعة، والحركات الهدامة وتواريخها، وارتباطها ونشاطها، ورجالها.

وغير ذلك من الأدوات الشرعية.. هل نتصور أن هذه الأدوات سهلة؟ عن نفسي لا اعتقد، وبالرغم من تخصصي في العلوم الإنسانية، ثم في العلوم الإدارية، وبالرغم من كوني طالب دراسات عليا، إلا أنني لازلت أتمنى أن أتمكن من دراسة العلوم الشرعية واتقانها، وذلك لتشعبها وصعوبة وحاجة الإنسان إلى
قوة حفظ واستحضار ذهن ليتمكن من استخدام الأدوات المناسبة اللأحداث.

البعض قد لايشعر بحجم الأمر، ولكن التصدي للفتوى والعمل عليها ومتابعة حديث للتثبت من رجاله ومعرفة صحته أمر فيه مشقة لاتقل عن دراسة تخصص علمي والسهر للتعرف على خواص كائن في المحيط.

لكل تخصصه، ولكل إمكانياته، ولذلك أؤمن أن الفتوى ليست من حق إعلامي يجهل أبسط الأمور الشرعية مما يقام به الدين، وليست من حق طالب علم تخرج من كلية الشريعة مكتفياً بما درسه، متخيلاً أن في ذلك كفاية فلم يتحمل طلب المزيد.

وليست من حق من عرف بالفساد والانحلال، والبحث عن فتوى تحقق رغبته الشخصية فيأخذ من عالم هنا، وعالم هناك، ويضرب الأقوال ببعضها، ليخرج برخصة تبيح له كل مايريد ولو كان في ذلك الحرام أو مقاربته.

بل من حق أئمة العلم، اللذين عرفوا بالصلاح في سيرهم، والجد في طلبهم للعلم، والدين وصحة المعتقد في تعبدهم. والثبات في نصحهم وجهادهم.

حقيبة الأدوات ليست حكراً على أصحاب المهن، بل هي لجميع التخصصات. وكما نتعامل بتقدير مع مفك، أو منشار، فلابد أن نفهم معنى أن نقول على الله بغير علم، أو نتأول بجهل كلام الله وكلام رسوله صلى الله
عليه وسلم.

لله العلم وأهله، غفر الله لهم، وكتب لهم الأجر على مايلاقونه من ضعاف النفوس ممن يريدون الدنيا على حساب الآخرة، أو ممن جهلوا وظنوا أن مالديهم من علم يكفي للوقوف أمام طوفان المتغيرات. ورحم الله
أمةً ابتليت بهولاء.

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)

التصنيفات
رؤى

نبات الظل والأشجار

 

في مكتبي هناك نوعين من الأشجار، نباتات ظل تزين أرجاء المكان. وأشجار تحيط بالمبنى تعطي شعوراً بالتأثير الزمني. في فخر يخاطبني الرجل الذي أحضرها، يقول: أنا الذي أقنع الإدارة بزراعة هذه الأشجار، كانت كلها عصيِ صغيرة، زرعتها بيدي، وأفرح حين أراها كبيرة، وهو أمر يشير من خلاله إلى مدة خدمته في الشركة، وخبرته التي أكتسبها في إدارته.

في حياتنا الإدارية هناك نوعين من النباتات أيضاً.. نبات ظل وأشجار.. فالأولى شتلات صغيرة توضع لإضفاء منظر يزين المكاتب، قد لاتكون ذات رائحة طيبة، بل ربما لاتعرف أهي حقيقية أم صناعية، وهي لاتثمر فليست للإنتاج، كل الذي تقوم به تغير جو المكان، وهي تستمد حياتها من مصادر أخرى خارجية، فجذورها محدودة الامتداد، تشغل مساحة الإناء الذي وضعت فيه، وأوراقها قصيرة تكون محيطاً صغيراً من الظل.. بل حتى الحشرات قد لاتعيش فيها، لا أدري بسبب العناية الفائقة بها، أم لأنها لاتمثل أي قيمة غذائية أو منفعة بالنسبة لها.

وهي فوق ذلك كله لاتحتمل الشمس، ولا تريد تيارات الهواء المختلفة، وتتأثر بالعوامل فلا تكاد تغير مكانها.

والثانية أشجار ضاربة الجذور، تمتد أحياناً حتى تفسد المكاتب والمباني وبعض مرافق البنية التحتية كتمديدات الماء والكهرباء، وهي بهذا الامتداد تعطي صورة عن خبرات الموظفين العميقة حين لاتسعها مجالات العمل في المنظمات الحكومية والخاصة، تتعامل هذه الأشجار مع مختلف عوامل الجو، تغيراته وتقلباته، وتعطي نوعين من الإنتاج:

– إنتاج غذائي، من خلال ماتطرحه من ثمار.

– وإنتاج لنسميه اجتماعي، وهو إنتاج خدمي يتمثل في الظل.. إضافة إلى نواحي الجمال التي تقدمها.

النوع الأول يشبه تماماً أنماطاً من الموظفين نتعامل معها ونراها ومن صفاتهم:

– أنهم لايمثلون شيئاً أكثر من المنظر اللامع الجميل، الذي يستمد لمعانه وجماله من إدارات أخرى وموظفين آخرين يقومون بتلميعه، وذلك من خلال القيام بعملهم وتقديمه له ليقوم برفعه بنفسه للإدارات العليا، متباهياً بإنجازه، شاعراً بعمق خبرته وأثره في التغيير والتطوير، دون أن يتعب نفسه في تغيير أبسط الأمور أو مراجعة العمل ليتعلم طريقة القيام به مستقبلاً، أو من خلال إضفاء جو المهابة حوله كونه صاحب منشأة أو قريب لمدير أو غير ذلك من الاعتبارات الاجتماعية.

– أنهم لايكونون خبرة، لأنهم لا يعملون، وذلك لأسباب ومنها:

  • لا يحسنون القيام بالمهام. ولا يرغبون بذلك، فطالما هنام من يخدمهم فهم لايحرصون على التعلم.
  • لا يعرفون كيف يحولون المعلومات النظرية التي لديهم إلى معادلات عملية تمكنهم من تنفيذ الأعمال.
  • ليس لديهم الاستعداد للتواضع والسؤال عن طبيعة المهام وكيفية تطبيقها.

– أنهم لا يملكون أمر أنفسهم، فهم كقطعة تنتقل بانتقال الأرض التي أنبتتهم فيها، وقد لايكون انتقالاً بل يكون بحركة قوية للرياح فتذروا رمال الإدارات التي زرعتهم، وتطير معها النباتات المتعلقة بها.

– والنمط الثاني ليس ببعيد عن الإدارة أيضاً، يذكرونني بصنف آخر قابلت بعضهم في حياتي وتشرفت بالعمل معهم، ومن صفاتهم:

– التأهيل القوي، فهم ضاربون بجذورهم في تربة المعرفة يستمدون منها قوتهم.

– الشموخ في مواجهة متغيرات الإدارة من حولهم والتحديات والمخاطر.

– المنفعة التي يقدمونها من خلال النتاج والتدريب، تماماً كتقديم الثمار والظل.

هناك عنصر ثالث يكمل العملية الزراعية، وهو السماد.. وحتى هذا لاتخلوا الإدارة منه، فلو تأملت فستجد نوعاً آخر من الموظفين يلتقي مع السماد في بعض صفتين وهما:

– أنهما يوفران المواد العضوية اللازمة، والتي تشكل قيمة غذائية للنبات والأشجار. فهذا يعطي الغذاء، وذلك يقوم بالتمسح وتقديم الخدمات للتقرب من الإدارة والحفاظ على مكانته.

– أنهما قد يتشابهان أحياناً في إعطاء شعور التقزز، وذلك حسب نوع السماد.

وأخيراً.. اختر لنفسك.. فكن نبات ظل.. أو كن شجرة.. أو كن غير ذلك.

(الصورة بعدسة: أسيل الغنام)

التصنيفات
رؤى

النورس

– أراك تتأمل كثيراً في الصور بين يديك..

– ابتسمت له.. نعم، هذه صور لطيور النورس.

– لقد لفت نظري هذا الشي.. ولفت نظري أيضاً أنك تحب هذا الطائر.

– ربما.. وربما لا يكون حباً بقدر ما هو إعجاب بصفات وتأمل لحياة.

– كيف ؟

– ابتسمت له.. فكر قليلاً.. وسأخبرك لاحقاً.

أحب التأمل كثيراً.. ولربما أثار المنظر الصغير في نفسي أموراً لا يتخيلها أحد.. وأتتبع نقاط الذوق والتميز والإيحاءات الفاتنة.. والهمسات المعبرة.. وربما أجد من الدروس الكثير في شي أراه ويراه غيري كل يوم، ولكنه يقع في نفسي فيؤلمني أو يسعدني ويبهرني فأحلق في سماء وصفه.. كما حدث معي في النورس وفي الطحلب وفي الشطرنج والبيادق وبعض الأشكال الهندسية وغير ذلك.

– لونه الأبيض يوحي بالصفاء.. فالأصل فيه النقاء مهما اتسخ.. وهو سرعان ما يعود للمعانه، وهذا يعطي شعور بالعودة إلى الطريق مهما ابتعدنا.

– قوامه الرائع وما فيه من أنفة ظاهرة، وجمال ملحوظ.. يعطي تكاملاً مع اللون الأبيض والشكل الانسيابي.

– تحليقه المتميز فهو يحلق بأكثر من طريقة وفي كل طريقة منها ميزة:

  • التحليق السلس، ويعطي هذا شعور بتحكمه في الجو، وسيطرته على الفضاء.
  • التحليق عكس الريح، وهذا يعطي شعور بالتحدي.. الغربة.. البعد عن العالم حوله.. العزيمة للوصول إلى الأهداف وتحقيقها.. والنظر البعيد.. والعمل دون ملل.

أرأيت.. كأنه يطير وهو ينظر لشي أمامه.. فيقاوم الرياح ويطير ببطء ولكن يقطع المسافات من أجل تحقيق هدفه، ولو نظرت لموضع بصره لرأيت الفضاء، فتشعر أنه يرى مالا نراها ويخطط لأهداف بعيدة ويعمل بهمة من أجل تحقيقها.

  • الانقضاض، وتشعر من خلال المتابعة له بالقوة والسيطرة والدقة.. القوة في الهجوم.. والدقة في توجيه نفسه وضرباته.. والسيطرة على خصمه من جهة، ومن جهة أخرى على نفسه، وإمكانياته، ومواهبه.

– وحدة في خلطة.. فعلى الرغم من أنه يعيش ضمن مجموعة وسرب إلا أنه كثيراً ما يبتعد ويحلق لوحده.. فهو مع سربه ينفع بقدر ما يستطيع.. ولكنه إذا عاد لذاته طوى نفسه على نفسه فكأن صدره كله جراح.. وفكره كله ألم.

– مسكنه وحياته على الشاطئ.. تشعر أن كل شي يشهد على ذوق هذا الطائر.. ورقته وحياته الهادئة.

أرأيتم.. هذا كله وغيره يمكن أن يظهر لنا لو تأملنا في ما حولنا.. وأعجب كثيراً إذ أرى كل شي في واقعي يرحل.. وكل شي يبتعد.. وأرى قسوة الحياة في كل محيط.. ابتداء من موجة بحر تغرق.. وانتهاء بنسمة ريح تخنق.. مروراً بأنياب تمزق.. ومخالب تجرح.. وكل أصناف العذاب.

 

(الصورة بعدسة: براك الخالدي)

التصنيفات
رؤى

الورقة الصفراء

“أنها صورة للبشر.. ربما كنت أنت هذه الورقة.. ربما أباً في أسرة.. ربماً أما بين أسرتها.. ولكن من المؤلم أن يواجه الواحد ثمناً للتضحية باتهام وانتقاص وابتعاد.. إنها جراح النفس التي لا تبرأ.. أن تبذل وتبذل، تم تسقط متهماً”

كانت البداية كسؤال.. هل الورقة الصفراء جزء ساقط لا فائدة منه؟ أم أنها صورة جديدة من صور التميز والتضحية؟

– تعيش الورقة كغيرها من الأوراق ضمن مجموعة متكاملة.. تتقاسم بينها الأدوار.. منها المعلم، والطالب، والعامل، والتاجر، في صورة بهية ضمن شجرة واحدة.. تعيش مع مجموعة من الأشجار في غابة واحدة أو بستان واحد.. لانشعر بهذه الحياة.. ولكننا نراها ونرى أثرها.. والموفق منا من تأمل قليلاً ليرى عجيب صنع.

• نرى أثرها من خلال أكسجين نستنشقه.

• ومن خلال ثمار نأكلها.

• ومن خلال مناظر نتمتع بها.

• ومن خلال ظلال نستظل بها.

– ثم تسقط هذه الورقة.. تسقط كدمعة من عين كهل ابتعد عن أسرته وعاش وحيداً بلا كف تؤنسه في شيخوخته.. أو كطفل تيتم وافتقد صدر الأب القوي أو صدر الأم الحنون.. فهل كان سقوطها فجأة بلا مقدمات؟.. أم أن هناك أموراً كثرة تمت في الخفاء وأفشاها حفيف الأوراق وهمس الرياح.

– قالت الريح أن الشجرة كان لابد أن تتخلص من فساد فيها.. يتم ذلك من خلال تفريغ المكونات الفاسدة في ورقة من أوراقها في عملية حيوية تعلمناها في المدارس ولم نفكر فيها من زاوية تربوية.. وكان لابد من أعضاء منتخبون يتحملون هذه التضحية فيتجرعون السموم ليعيش البقية.. ليس الشجرة فقط.. بل الشجرة والكائنات القريبة منها.. ثم بدأ توجيه كل الشر لها.. وسقطت في نهاية الأمر مضحية بحياتها.

– أنها صورة للبشر.. ربما كنت أنت هذه الورقة.. ربما أباً في أسرة.. ربماً أما بين أسرتها.. ولكن من المؤلم أن يواجه الواحد ثمناً للتضحية باتهام وانتقاص وابتعاد.. إنها جراح النفس التي لا تبرأ.. أن تبذل وتبذل، تم تسقط متهماً بأنك كنت مليئاً بالفساد.. حاملاً للشرور.

إن من اتهم هو ذاته الذي أفرغ السموم.. لم تقدر التضحية، بل أصبحت تهمة.. ومادرى أن السنن مستمرة.. وستحتاج الشجرة أن تضحي بورقة أخرى كي تعيش.. ولو تعانقت دمعة من هنا، ودمعة من هنا لماتت الورقة سعيدة، ولكانت دمعتها فرحة بدل الانكسار.. ولوجدت في حزن من حولها نوعاً من الأنس.

– إن النفوس التي تضحي عظيمة.. فحتى في سقوطها لم تشأ أن تكون كغيرها.. فهاهي الآن فراشاً في عش طائر.. تحتضن بيضه وتهب لها الدفء.. وحتى يكتمل العش لابد للطائر أن يأخذ من هنا جزء ومن هنا جزء.. فيمزق ماتبقى منها.. وأخيراً ترحل الطيور.. وتبقى الورقة الصفراء سوداء.. وتبقى الدنيا كلها نابضة بتضحيتها.. مشرقة ببذلها.

• الشجرة في اخضرارها.. وظلالها.. وثمارها..

• والطيور في تغريدها.. وتكاثرها.. وتحليقها..

• والبشر في الحياة على نتاج هذا وذاك.

– سقطت أم.. باعت عرضها.. شعرها.. أسنانها.. لتعيش ابنتها، حين تخلى عنها الناس.. وسقط رجل.. وبقى منبوذاً وقد أطعم بسقطته أسرة.. وأحيا أنفساً بعد أن عجز أن يجد كفاً تستأجره لتدفع له ثمن لقمة.

– إنها القسوة التي نواجهها في حياتنا.. وتبقى أرواحنا كورقة صفراء.. ضحت في صمت.. وسقطت في سعادة.. وأخفت دمعتها لكي لايشمت فيها بعيد.. أو يتألم لها قريب.. وبذلت بعد موتها.. فعاش رفاتها نبراساً.. وكانت دفئاً لقلوب باردة.. وغيثاً لأرض مجدبة.. ولن تنته التضحيات حتى لو انتهت حياتنا.

– ليس كل ساقط عديم.. وكم من ساقط بذل.. وكم من مقصر ضحى.. وستمر الأيام سريعةً حاملة لنماذج بذلٍ.. ولكن ستبقى أوراقنا الصفراء شواهد مميزة.. وعند الله تجتمع الخصوم.

(الصورة بعدسة: أسيل الغنام)