التصنيفات
طائر المئذنة

أول يوم دراسي

أول يوم دراسي copy

وقف بسيارته بجوار المبنى وأخذ ينظر في صمت حزين إلى الباب الأسود الكبير.. شعر بضآلته أمام هذا المارد.. أيعقل أن تمر الأوقات بهذه الصورة المرعبة في نفوسنا فتقتل كل لحظة جميلة عشناها؟.

التفت إلى الباب ثانية، لم يكن ينتظر خروج الأطفال فهو يعلم أن المدرسة مغلقة في هذا الوقت.. كانت الساعة الواحدة ليلاً والشارع خال من المارة.. رجع بذاكرته إلى الوراء وتذكر مدرسة القرية.. اليوم أول يوم دراسي له.. تذكر ابتسامته وهو يجري في الحديقة.. تحديه له في سباق يبدأ من مكان أمه وينتهي بنهاية الشاطئ.. المرور بين العربات في المحلات التجارية وهو يرتدي حذاء التزلج.. وكلما رجع لعربته يضرب ظهره في ابتسامة بريئة تعجز كل ريشة عن تصويرها.

تذكر أنه لم يأكل شيئاً منذ الصباح.. تحرك بالسيارة وتوقف أمام مطعم للوجبات السريعة.. نظر إلى المقعد الفارغ بجواره وابتسم ودمعة تنحدر من عينيه وخاطب المقعد.. ماذا ستأكل؟

لم يكن ينتظر الرد.. لكنه فعل كما كان يفعل دائماً معه.. لم يكن يراه مجرد طفل.. بل كان طفله وزميل عمله وكل شيء في حياته.

أوقف السيارة ثانية على الشاطئ المظلم.. سكنت نفسه لصوت الأمواج.. وعادت الصور في ذهنه من جديد.. حمله على كتفه.. وضع يده الصغيرة على رأسه.. ووضع ذقنه فوق يده.. وبدأ يكلمه.

أبي.. أريد هذا القلم.. وأريد هذه الأوراق الملونة لأرسم فيها.. واو أبي أريد هذه الحقيبة الصغيرة لأضع فيها أوراق ميدو.. ميدو الدب الصغير الذي لا يفارقه حتى في منامه. ويلتفت إلى ميدو المرتبط بصدره.. تريد هذه؟ سأشتريها لك.

أبي هذا اللون لا يصلح.. لابد أن تغيره لي.. أنظر لدي هنا ملابس كثيرة تشبهه لماذا اشتريته.. المرة القادمة أنا سأذهب معك لأشتري بنفسي.. يتركه يركض إلى غرفة مجاورة.. يعود إليه مبتسماً ويختطف قبلة تطبعها شفتاه الصغيرتان.. أشكرك أبي.

–        أبي.. أنت كبير؟

–        نعم يا بني.

–        يعود لذهوله المفاجئ.. وأنا.. كبير، أم.. صغير؟

–        أنت رجل كبير جداً.. انظر. ويقف الأب على ركبتيه ويقترب من الابن الجالس على السرير.. يساوي الرأس ثم يقول انظر.. أنا أصغر منك.

–        ويبتسم الابن.. وسأذهب إلى المدرسة؟

–        نعم وستكون أفضل مني.

–        وأشتري حذاء تزلج جديد؟

–        تريد حذاء جديد؟.. لديك اثنان.

–        أريد الفضي.. أعجبني ويصلح مع هذا القميص..

وترتسم الابتسامة ثانية.

–        حسناً سأشتريه لك غداً بإذن الله.. هيا الآن للنوم.

التفت إلى السماء.. النجوم تزهر.. وعادت ابتسامته ثانية..

–        بابا.. أعطني حبل.

–        لماذا؟

–        الشمس ستختفي في البحر.

–        ولماذا تريد الحبل؟

–        سأرميه عليها وأرفعها فوق.. ليزداد النور.

آهـ لو علمت بما حدث لأبيك يوم رحيلك يا بني.. عاد لليل والبحر يتأمل في سكونهما.. وصوت الأمواج الخفيف يضرب الشاطئ في لطف.. وأضواء صغيرة بعيدة على امتداد الأفق توحي بالمشاركة في هذا الملكوت.

–        خلاص.. يكفي كلام.

–        ما بك يا بني؟

–        أتعبوني بالكلام.. أوجعني رأسي.

يبتسم ثانية ابتسامة أقرب ما تكون للبكاء.. هذا الصغير … واختفت الكلمات من شفتيه.. وعاد ثانية لمكانه.

نزل من السيارة وبدأ يمشي.. الرمل ناعم.. ورجله تغوص فيه.. عادت الذكريات لنفسه.. أبي انتبه لا تتسخ وإلا ستغضب أمي.. امش هكذا ويتحرك بهدوء على الشاطئ.. يعود مسرعاً إلى سيارته.. يرتمي على المقعد.. كل شيء، كل شيء يذكرني به.

يتحرك بالسيارة الوقت قارب على الفجر.. يصل إلى بيته وقت الأذان.. يصلي الفجر ويعود إلى غرفته.. يمكنه أن ينام قليلاً قبل أن يذهب إلى عمله.. يغمض عينيه وصورة الصغير ترتسم أمامه.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

رحلة إدارية

رحلة إدارية

كان المكان يشبه منتجعاً ريفيًّا بسبب كثرة الخضرة والأشجار وخاصة حول الوحدات السكنية وتحت الشرفات الرئيسة للمباني.. ولو تخيلنا المكان لعرفنا أنه صمم بطريقة تدل على ذوق تجاري لطيف.. ففي يمين الداخل إلى المجمع أقيم صف أبنية علاه قرميد أخضر، ولم يكن في الحقيقة سوى مبان متعلقة بالخدمات العامة، وقد أقيم طريق صخري لطيف طليت أطرافه باللون الأبيض، ثم يتفرع الطريق بطرق أصغر تؤدي إلى المباني ذات الدور الواحد.

واهتم البستاني بتزيين هذه المنطقة إذ إنها مسئولية الإدارة، ولذلك بدت غاية في التشذيب والجمال.. وعلت في الأقصى اليمين نخلة استوائية أعطت المكان مزيداً من الشاعرية.. وفي أسفلها مجموعة كراس شمسية ومكان معد للشواء.

وفي الأمام ومباشرة بعد وحدات الصيانة والخدمات، صف طويل من الوحدات السكنية الرائعة التصميم، والمغطاة بقرميد أحمر نقشت عليه أرقام الوحدات.. وكل وحدة لها مدخلان يؤدي كل واحد منها إلى دور مجهز بغرف نوم وغرفة طعام ومطبخ وغرفة ألعاب وبعض المنافع المهمة وصالة داخلية وشرفة خارجية تصلح لجلسات الشاي والقهوة التركية المشهورة في هذه المنطقة.

وينتهي الصف الطويل بمسبح أولمبي في صالة زجاجية يلحق به ملحق خشبي تغطيه الأشجار ويقع فيه النادي الصحي و السونا والعلاج الطبيعي وغير ذلك مما يهتم به أهل الرياضة.

في الجهة المقابلة تماماً للوحدات السكنية تقع صالة اجتماعات كبيرة مجهزة بأحدث المعدات من وسائل عرض، وخرائط، ونظم معلوماتية وغير ذلك.. وبالقرب من المدخل الرئيس على يسار القادم حديقة استوائية رائعة يتوسطها مبنى صمم على شكل معبد صيني، واتخذته إدارة المجمع مقرًّا لها، وبجانبه وضعت بعض الأقفاص المرتبة على هيئة حديقة حيوان صغيرة وضع فيها بعض الحيوانات النادرة.

هذا هو المكان الذي قررت البعثة إرسالي إليه للاجتماع السنوي لعلماء الإدارة والتخطيط.. وكنت أرى في وجه الرجال نوعاً من الرفاهية المقيتة التي هي في حقيقتها كسل وجبن وتعلق بأسباب الحضارة المادية.. لم أكن متمسكاً تماماً بإسلامي ولكن المكان أعطاني شعوراً بتميزي، وتوقعت أن تطول فترة إقامتي، لذا أرسلت لأخي في طلب مجموعة من الكتب الشرعية التي تتعلق بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.

انتهى الشهر الأول في برامج مملة نوعاً ما.. ولأن الجميع حضروا بأهاليهم عداي فقد كانت لديهم برامج تخص الأسرة ولكن لم يكن لي مكان كبير فيها لاختلاف الثقافة.. وبدأت أعد مشروعي الذي سأتبناه في هذا المؤتمر الذي هو أقرب لورشة تنظير إداري، وأنهكت نفسي في البحث والتأمل والدراسة والترتيب.. حتى حان موعد إلقاء أطروحتي الإدارية.

–        أنت مجنون يا أحمد؟

–        لا.. لست مجنوناً.

–        كيف لا.. وهذه هي أطروحتك.. أتدري من ستقابل هنا؟

–        نعم.. كل أقطاب الصناعة والإدارة في مختلف دول العالم.

–        جميل.. جميل.. إذاً أنت تعرف حقاً من ستقابل.. ومع ذلك فأطروحتك لا تدل على فهمك.

–        لماذا يا دكتور؟

–        ما دخل الدين في الإدارة والاقتصاد؟

–    … سادنا لحظة صمت ,, ثم قطعتها بردي عليه، ومن قال لك إنني سأتكلم عن الدين.. أنا أتكلم عن الإدارة في عهد رسول الله صلى الله عليه والشيخين.

رد علي مستهزئاً.

–        وهل كانت هناك نظم إدارية في ذلك الزمان؟

–    ربما لم تكن مكتوبة.. ولكن السياسات التي مشوا عليها تعطي عمقاً إداريًّا قويًّا في حياتهم.. وإلا ما قامت الدولة الإسلامية بهذه الصورة القوية والمبدعة في ترتيباتها وتقسيمات المهام فيها.

كنت متحمساً للفكرة بشدة.. وبذلت جهدي طوال شهرين كاملين في دراسة بعض المقاطع التي رأيت فيها قوة إدارية وخاصة المعارك، والعلاقات العامة.. ومنها استطعت أن أرسم الخطوط الكبرى في العلاقات الإدارية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

 وبعد كلام رئيس الاجتماع أدركت أنني سأخوض حرباً لإثبات صحة نظرياتي.. وإن كان هذا المسلم واجه الأمر هكذا فكيف ستفعل الشعوب الحمراء والصفراء.

–        معنا الآن الدكتور أحمد..

هكذا أعلن اسمي أمام الجميع وتقدمت أحمل حقيبة وضعت فيها جهاز الحاسوب الخاص بي.. ومجموعة قصاصات دونت فيها أهم المحاور التي سأتطرق إليها.

–        ألقيت التحية.. وساد الصمت.

–    ليس المهم أن أقف هنا أنا أو غيري لطرح نظريات خيالية لمعالجة أوضاع الاقتصاد.. والتصدي للنكبات والأزمات. وتوفير مستويات معيشية مناسبة للمجتمع.. ومن ثم وضع صور مثالية للتطوير. بل المهم أن آتي لكم بسبب يعالج كل ما ذكرته من سلبيات.

–    منذ أكثر من 1424 سنة خرج دين جديد على مجتمع صحراوي لا يعرف من صور الحضارة شيئاً سوى الخمر والنساء وبعض عادات فيها نبل كالكرم والشجاعة مع ما خالطها من الرغبة في المدح وغير ذلك.. ولكن رجلاً خرج من هذه البيئة قاد هؤلاء إلى تحقيق أروع الصور في السلوك والتعامل، مع معطيات الحياة لصنع النجاح من خلالها.. إنه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

سرت همهمة في القاعة الكبيرة.. ولكنني لم التفت إليها بل تابعت حديثي.. وأخذت أسرد في صور سريعة ملامح من الواقع الجاهلي، وبالمقابل صور التغير التي حدثت في المجتمع بعد إسلامه، وكيف تعامل معه أعداؤه بشدة ولكن بالمقابل وثقوا فيه ليقينهم من صدقه.

–    كانت أول صور الإدارة هي ضبط النفس في مواجهة العداء ومقابلة الإساءة بالإحسان، ومع أن العربي يرفض الضيم إلا أنهم امتثلوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف أي منهم بأي تصرف يخالف أمره، ولم يقاتل أحد منهم، وما كانت تنقصهم الشجاعة ولكنه التغير الذي حدث في النفوس.

–    وكانت الزكاة تؤخذ من الأغنياء لتعطى للفقراء لعمل توازن في المجتمع، ثم فتح باب الصدقة لسد ثغرة أكبر، ثم كان التآخي في صورة لم يعرف التاريخ كله مثلها.. إذ كيف نتصور أن يحل أهل مدينة ضيوفاً على مدينة أخرى فيتقاسموا معهم كل شيء ويشاركونهم في حياتهم حتى لا تكاد تعرف من أهل البلد الأصليون. ..وبدأت الفتوح.. فإذا بالبدو ينتظمون في جيوش ويقاتلون في صفوف في سابقة تاريخية ما عرفها الناس وظهرت صور من الإدارة فريدة توِّجت بانتصارات في بدر، وأحد، و القادسية وغيرها. وأما بيت المال فكان مخزن الدولة.. ينتفع به الجميع تحت إدارة الخليفة.. وتكلمت عن مهام الخليفة وطبيعة العلاقة ومعالجة المواقف التي قابلوها.

كنت أتحدث في سعادة ونشوة.. ومع أن الوقت انتهى إلا أن أحداً لم يغادر مكانه أو يقاطعني، بل كان الكل مندهشاً لعرضي للجوانب الإدارية في كل المواقف التي ذكرتها، في الوقت الذي كان البعض ينزوي خجلاً من تاريخه، وقف أقطاب الإدارة في العالم يصفقون ويثنون ويعجبون كيف لم يعرض أحد هذا الكلام من قبل.. وكيف يفرط المسلمون في هذا التراث المجيد.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
أكواخ الظلام

أكواخ الظلام

اكواخ الظلام copy

كانت حجرة علوية باردة.. يضيء ظلامها نور القمر إذا أكتمل.. وشمعة تشتعل في خجل فيتوارى ضوئها على بقايا الأشياء التي لا تأخذ من الحقائق إلا اسمها.. سرير هو في الحقيقة قطعة خشب صلبة يتعب الرجل القوي من الاستلقاء عليها.. غطيت ببعض المتاع مما يسمى ملاءة وما شابه ذلك.. ووسادة خشنة غير متساوية.. وصندوق وضع بجانب السرير ليكون خزانة صغيرة للطوارئ.. وصندوق أكبر قليل رصت فيه أسمال فتاة في التاسعة من العمر.. ثوبان باليان يطل منه جسد الصغيرة من أكثر من موضع.. ومنضدة أقل اهتراءً وكرسي أكثر صلابة من السرير.

التصنيفات
أكواخ الظلام

بائع الحلوى

وضعت الصواني في شكل جذاب.. وفي نفس الوقت يدل على تمرس في المهنة، فأصناف الكنافة تجاورت لتعطي صورة شهية ترغم الواحد على الشراء.. وبجانبها البقلاوة وأنواعها.. وفي الزاوية وضعت علب حلوى مختلفة الأحجام على شكل هرم وقد علقت فوقها لوحة كتب عليها بخط نسخ جميل عبارة “العروض الخاصة”.

–          محمد.. تعال ساعدني لننقل هذه الطاولة إلى الخارج.

ويتحرك محمد الغلام الأشقر ذو الخمسة عشر ربيعًا ليساعد والده في نقل طاولة بدت كبيرة جدًا بالنسبة له.. ويرفعها في مجهود ظاهر ليمشي مترنحًا.

التصنيفات
أكواخ الظلام

البائع الصغير

الشوارع تختنق من شدة الزحام.. والحرارة تذيب الإطارات.. والرطوبة تأكل الحديد.. والكفوف الصغيرة تحمل زجاجات الماء البارد وتبيعه على قارعة الطريق.. وبجوار إشارة ضوئية وقف طفل صغير يحمل بعض الزجاجات والعرق يتصبب من وجهه الأسمر.. وشعره الأسود الناعم قد صفف في وضع عشوائي ونظرة ساهمة منكسرة ستجبرك على التأمل في وجهه والشراء منه.

التصنيفات
طائر المئذنة

رحلة الثلوج..

كان لابد أن أنتهي من عملي مبكراً فالحافلات هنا تتحرك في مواعيدها دون أي تأخير.. ولذلك يجب التوجه قبل موعد المغادرة بوقت كاف لأتمكن من إنهاء الإجراءات. لم يكن التبكير يمثل لي مشكلة لأني لا أحب التأخر عن مواعيدي.. وزيادة في الحرص استأذنت مديري في تقديم مواعيد محاضراتي ونسقت مع أحد الزملاء بشأن محاضراتي، لأتمكن من الخروج قبل نهاية اليوم الدراسي لترتيب أغراضي.

كانت زوجتي قد سبقتني منذ يومين.. وقد حاولت في فترة غيابها أن لاأكثر من استخدام الأواني المنزلية لأنني لا أحسن ترتيب البيت.. ولم استخدم غرفة النوم أيضاً واكتفيت بأريكة الصالة وبهذا قللت المساحة المستخدمة لمعيشتي.. ولم أحاول استعمال المطبخ لصنع أي شيء.. وهكذا ضمنت أقصى حد للنظافة في المنزل.. أمر واحد بقي يشغلني وهو الحمى التي أصابتني قبل يومين.. وظلت تعاودني بين ساعة وساعة، وتشتد علي في  الليل.. ولذلك حجزت على رحلة الضحى لأصل إلى مدينتي بعد العصر.

في الساعة العاشرة كنت قد أنهيت آخر محاضراتي.. فحملت حقيبتي الصغيرة وانطلقت إلى محطة الحافلات.. وفي ربع ساعة وصلت إلى هناك.. كانت الحركة نشيطة في المحطة.. صوت المذياع يصدح بموسيقى الصباح ويملأ الجو ضجيجاً.. ورائحة القهوة تفوح من أكشاك بيع الصحف.. وعمال المحطة ينتشرون هنا وهناك.. والأرصفة تمتلئ بالحقائب.. نظرت إلى ساعتي.. كانت تشير إلى العاشرة والثلث.. بقي عندي قرابة خمس وعشرين دقيقة قبل موعد الانطلاق.. أسرعت إلى شباك التذاكر..

–        هل لديك حقائب؟

–        لا.. فقط حقيبة صغيرة سأحملها معي.

–        يمكن أن تتأخر الحافلة.. الطريق مليء بالثلوج.

–        ولكن الجو صحو تقريباً.

نظر إلى الموظف ثم تابع عمله.. ودون أن يتلفت إلي أضاف

–         ولكن الجو في المدينة الأخرى غائم.. والثلوج تسقط طوال ليلة البارحة.

ابتسمت له وأخذت تذكرتي وشكرته.. ثم اتجهت إلى الرصيف المخصص للرحلة.

كان هناك بعض المسافرين يقفون في انتظار الحافلة.. اتجهت الأنظار إلى الجهة التي ستصل منها المركبة.. وبدا الجو يتغير.. تأخرت السيارة ومر الوقت بطيئاً.. ومع النسمات الباردة، شعرت بالتعب والمرض يزحفان إلى جسدي وأوصالي.. وفي الساعة الثانية ظهرت الحافلة.. ومع صيحات التذمر التي كانت تصدر من الناس وصل صوت السائق متذمراً متعباً.. ومنذراً برحلة صعبة فالأجواء سيئة جداً.. والطريق شبه مغلق في بعض المناطق.. أو سيغلق بالكلية.

انطلقت بنا الحافلة وحل التعب بالناس.. مع أننا لازلنا في بداية الرحلة.. ولكن فترة الانتظار أجهدت البعض وبدا ذلك على قسماتهم.. كان الجو قد أخذ في التغير.. والسماء شبه الصافية لم تعد كذلك فقد امتلأت بسحاب أسود يؤذن بهطول الأمطار. وكان من المقرر أن تقطع الرحلة في ست ساعات.. ولكن مع سقوط الأمطار أخذ السائق في تخفيف السرعة.. وبتساقط الثلج أصبحت حركتنا أكثر بطءً.. واضطررنا إلى التوقف لأكثر من مرة بسبب تعطل بعض السيارات.. كما أوقفتنا الشرطة للتأكد من وجود سلاسل على إطارات السيارات.

بدأت الحمى تشتد علي.. شعرت بالبرد يعانق عظامي.. جلست في مقعدي والتففت على نفسي.. وأخذت أتأمل في المنظر خارج الحافلة.. كانت حبات المطر قد بدأت تثقل.. وحبات الثلج أخذت تتساقط.. ورأيت رجال الأمن على جانبي الطريق يفحصون السيارات ويرجعون بعضها.. تغيرت السماء بما يوحي بليلة شديدة الأمطار والثلوج.. ومع مغيب الشمس كنا قد مشينا في الطريق السريع ولكننا نسير ببطء.

اشتدت علي الحمى.. وبدأت أروح في غيبوبة بين لحظة وأخرى.. الألم يمزق مفاصلي.. ثم توقفت الحافلة وشعرت بحركة غريبة بين الركاب.. اقترب السائق مني.. ووضع يده على رأسي.. كنت أراه كالطيف لا أكاد أميزه.. وسمعته يخاطب بعض الركاب يطلب منهم النزول لمساعدته في تحريك الحافلة من مكانها.. ثم نظر إلي ثانية وهمس لمرافقه.. إنه محموم.. لم يكن هذا اليوم مناسباً لسفره.

كنت أفكر في صغيري.. وأحسست بالوقت يمر بتثاقل.. خرجت من مكاني لأرى ماذا يفعل الرجال.. كانت عجلات الحافلة مغطاة بالثلوج.. وكان الهواء البارد يضرب وجهي ورأسي فيزيد ألمي.. التفت إلي أحد الواقفين.

–        أنت.. لماذا خرجت؟ ارجع مكانك سوف تشتد عليك الحمى.

–        أريد أن أساعدكم.

–        لا يمكنك ذلك.. أنت مريض.. كما أننا نوشك أن ننتهي.. ارجع إلى مكانك.

عدت إلى مكاني ثانية.. كان كل الرجال في الخارج.. لم يبق سوى النساء والأطفال وأنا.. عند الثانية عشرة ليلاً تحركت الحافلة بحمد الله وخرجنا من مكاننا.

مرت ساعتان قبل أن نصل إلى وجهتنا.. هناك كان الثلج يغطي كل شيء.. يمكن أن نرى أثر العاصفة الثلجية التي أقفلت الطريق.. فقد كان الثلج يبدو كرغوة صابون كبيرة غطت كل شيء.. وبدت المدينة كأنها لبست رداءً أبيض ثقيلاً. كان علي أن أجد سيارة أجرة تنقلني إلى منزلي.

توقفت أمامي سيارة ونظر إلي السائق مبتسماً..

–        اسمع لن تجد سيارة أجرة.. مارأيك أن أقلك؟

بادلته الابتسامة

–         حسناً.. هل يمكن أن تقلني إلى قرية الجبل؟

تردد قليلاً.. ثم قال:

–        للأسف، الطريق ستكون مغلقة بالتأكيد فهناك الأحوال أشد مما هي عليه هنا.

–        إذاً سأنتظر سيارة أجرة.

–    اسمع يا عزيزي.. اليوم لا توجد سيارات أجرة.. ولو وجدت فلن يقلك أحد إلى هناك.. ولكنني سأوصلك إلى آخر نقطة يمكن أن تسير فيها السيارة ثم عليك أن تتابع أنت أو تنتظر سيارة توصلك إلى منزلك.

فكرت قليلاً.. وبدا لي كلامه وجيهاً.. واتفقنا.

وصلت في الثانية والربع إلى أسفل القرية.. وعلي بعدها أن أقطع مسافة أربعة كيلو مترات قبل أن أصل إلى بيتي.. وبدا لي الطريق إلى القرية مقطوعاً فعلاً، فلا أثر على الثلوج.. مما يدل على توقف حركة السير،  حاول قائد السيارة أن يقربني إلى آخر نقطة ولكن الطريق أصبح خطراً علينا.. فقد التحكم في السيارة فاضطر إلى التوقف، كان عليّ حينها أن أنزل وأكمل بقية الطريق مشيا على قدمي. لم أعد أشعر بالحمى فتفكيري في الوصول إلى ابني جعلني أشعر بنوع من النشاط.. ولكن مفاصلي تؤلمني.. كان هناك طريقان يوصلان إلى القمة.. علي أن أختار أحدهما.. ولأن الأجواء لم تكن تبشر بسيارة تمر في هذه الساعة من هذا المكان فقد اخترت الطريق الأقصر مع أن حركة السير فيه أقل.. حملت حقيبتي وانطلقت في طريق متعرج شديد الانحدار. المسافة لم تكن طويلة.. ولكن في هذه الظروف تراءت لي الطريق طويلة ومع أول جزء فقدت الإحساس بأي شيء حولي وتسارعت أنفاسي ولم أعد أرى شيئاً حولي.. ولكنني تابعت المسير وحبات المطر تبلل وجهي والبرد يتسرب إلى أعماقي.

كان السير وسط الثلوج صعباً.. وكلما مررت بجوار منزل نبحت علي كلابه فأسرع في مشيي كيلا يستيقظ أهله ويظنون أنني لص.. ألقيت حقيبتي على الأرض ورميت بنفسي عليها لكي أبعد جسمي عن الثلج.. أمسى شبح الموت يتمثل لي في كل آونة، أخذت أتخيل صغيري وأبتسم ترى ماذا يفعل في هذه الساعة؟

وقفت مرة أخرى وتابعت السير.. لم أعد أحس بالألم مثل السابق.. ولكنني كنت أشعر بأنني سأموت قبل أن أصل إلى المنزل.. وعند الساعة الرابعة لاحت لي المنازل القريبة من منزلي وعادت الروح برؤيتها إلى صدري.. اشتد عزمي على المتابعة.. وعند الرابعة والنصف وصلت إلى منزلي.

كان البرد يضرب كل جسمي.. ولم أعد أشعر بالتعب ولكنني كنت أمشي مترنحاً.. وضعت يدي على الباب الخارجي عاجزاً عن قرعه.. ثم جمعت ما بقي من قوتي وطرقت الباب بهدوء.. سمعت حركة خلف الباب.. و صوتا يسأل..

–        من هناك؟

–        هذا أنا.

فتح والد زوجتي الباب ووقفت زوجتي وأمها خلفه..

–        أوه هذا أنت كيف وصلت هنا في هذا الساعة؟

ابتسمت لهم:

–        أتيت مشياً..

ثم لم أعد أشعر بشيء بعد ذلك.

–        استيقظت من النوم حوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً.. نشيطاً.. سعيداً.. نظرت إلى زوجتي. كانت تجلس بجواري.. فابتسمت لي وسألتني..

–        كيف حالك؟

–        أنا بخير.. يبدو أنني نمت جيداً.

بقيت مبتسمة..

–        نعم هو كذلك.

–        أين الصغير؟ أريد أن أراه.

–        إنه نائم في الأعلى. سأحضره لك إذا استيقظ.

–        هل انتهى الثلج في الخارج؟

–        أتدري أنك نمت ثلاثة أيام؟

صدمني كلامها.. فنظرت إلى التاريخ في الساعة.. لقد كنت في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام.. رفعت رأسي إليها وابتسمت في تردد.. وقطع علي ذهولي صوت الصغير وهو يبكي.

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
طائر المئذنة

أشواق وأشواك

سبحان الله..

حتى الطيور تحن..

تذوب أجنحتها شوقاً..

تتألم..

تتعذب..

ومن أجل الوصول لمن تحب..

ترفرف نحو الآفاق..

 

(1)

المساحات الخضراء ممتدة.. السهول واسعة تدعو كل متأمل ناشد للسكينة.. الألوان مختلطة.. يمتزج فيها الأخضر بالأحمر.. يعانق الأصفر الأبيض.. تحدها الأشجار.. ونهر جارٍ يتفرع منه أكثر من جدول.. خرير الماء يكمل قطعة من التسبيح رائعة.. وأصوات الطيور تجاوب همسات الرياح..

هذه الأرض سلمت من يد البشر.. هنا حيث لا ضغينة ولا حرمان.. لا حسد ولا هموم.. تشرق شمس الصباح ناشرة مع إشراقتها الدفء والحياة. ويظهر القمر كل ليلة ليكسو كل ورقة أثوابه الفضية.. تهب الأشجار الأوكار والأعشاش للطيور.. ويحنو الزهر على النحل معطياً إياه الرحيق.. وينقل النحل الرسائل بين زهرة وزهرة ليستمر البقاء.. كل شيء هنا يقدم للآخر.. يعمل من أجله.. وحين يأتي موسم الرحيل تهاجر الطيور تاركة كل شيء.. لكنها تعود لتتزاوج من جديد.

–        من أنت؟ قالت الزنبقة..

–        يسمونني الحنون.. وابتسم لها.. أنا من طيور الجبال.

–        قالت بتعجب.. أووه أحقاً!! سمعت أن الحياة عندكم مخيفة.

–        رد مبتسماً.. نعم مخيفة بقدر السعادة.. متعبة بقدر الراحة.. إن تعبنا في حياتنا هو سر بقائنا.

نظر الطائر إلى الأفق.. وبدأ يتمتم.. إن قلباً عرف الفضاء.. لن يرضى بالأرض.. ونفساً تعلقت بالذرى لن تقبل بالسفوح.

–        قطعت الزنبقة حبل أفكاره.. وقالت وكيف أتيت هنا؟

–        كنت في رحلتي.. وقادني إلى هذا المكان الهدوء وتناسق الأشياء.

–        نعم.. مكان جميل.. ويبدو كل شيء متناسقاً.

–        قالت الزنبقة.. نعم.. ولكن….

–        تفرس فيها الطائر.. ولكن ماذا؟ كأنك تفكرين في أمر.

–        نعم.. الكل هنا متناغم.. ولكنني أشعر بغربة بينهم..

–        كيف؟

–        لازلت صغيرة.. لم أتكيف بعد مع دورة الحياة.

–        ابتسم لها الطائر.. ولكنك ذكية.. وأرى أنك تحملين قلباً طاهراً.. أبيض كالثلج.

–        ابتسمت.. يشبه ريشك الجميل.

بدت الزنبقة متعجبة جدًّا من الحنون.. تخيلته عملاقاً وبدأت تنسج له من خيالها الصور.. تتخيله في القمم.. يزاحم الهواء.. أجنحته القوية تمكنه من الطيران بقوة.. ونظرته الباسمة تسحر الفضاء..

–        هل ستطول إقامتك هنا؟

–        لا أدري… ولكن على أي حال لابد أن أرحل ذات يوم.

–        لماذا؟

–        ابتسم لها.. لأن مكاني في القمم.. هناك تكتمل دورتي في الحياة.

لم تعرف الزنبقة أن الحنون كان حزيناً.. كان يبحث عن أرض يحلق فيها.. هذه الساحات لاتستهويه.. إنها تصلح فقط للراحة والاستجمام.. ولكن عليه أن يقدم الكثير.

–        كيف تحب أن أناديك؟

–        ابتسم الطائر.. ما رأيك أنت؟

–        أممم.. أنت أبيض.. وقوي.. وجميل.. أناديك.. ملكي.

–        ابتسم لها الطائر.. وأنت كيف أناديك؟

–        اختر لي أنت.

–        حسناً أناديك.. ابنتي.

–        فرحت الزنبقة.. ابتسمت ولكنها سرعان ما طأطأت رأسها.. وذبلت.

–        ما بك.. لم الحزن؟

–        أبي سيرحل ويتركني.. سأبقى وحيدة بعدك.

–        ابتسم لها.. أنت لست وحيدة.. انظري حولك. كل هذه المروج قريبة منك.

لم ترد الزنبقة.. لكن قطرات الندى كانت تعبر.

–        اسمعي يا ابنتي.. أتشعرين بالوحدة  وأنت بين الزنابق ؟

–        ….

شعر الحنون بقلبه يتفجر.. لم تكن الزنبقة تدرك أنها بدمعتها تلك غرست في قلبه خناجرَ وسقته سموما.. كان غريباً مثلها.. رحل ليبحث عن وطنه.. أشاح بوجهه عنها.. ودون أن تشعر سقطت على خده دمعة.. أقوى القلوب هي تلك التي تذرف الدمع في صمت.. تحترق فيها آلاف الآهات.. تريد الخروج فلا تجد إلا الصمت.. فتتعذب الأرواح.. وفي عزة وعناد يبتسم أصحابها.

في قاموس الحياة لاتوجد قلوب سعيدة بالكامل.. ففي كل قلب مرارة.. من سلم من مرارة الحرمان لم يسلم من مرارة الشوق.. ومن ابتسم لإشراقة بكى لظلمة.. ومن كان محلقاً اشتاق للاستقرار.. ومن استقر حنّ للرحيل..

كل ما ترى حولك هو قلبي وقلبك.. هو أنا وأنت.. هو ابتسامة الطفل تعانق صرخة الوليد.. وفرحة الولادة تصاحب الآم المخاض.. والحزن على الرحيل يقابل لذة السفر.. والبكاء على الماضي يبشر بالمستقبل..

–        بُـنيتي..

رفعت الزنبقة رأسها على صوته الرقيق.. كانت تفكر فيه.. بدا لها عظيماً.. شعرت بأنس لقربه منها. تمنت أن يفرد أجنحته ليحتويها.. ليضمها ويحميها.

–        ابتسم الطائر.. أتشعرين بالسعادة لو زرتك؟

–        أشرقت أوراقها بابتسامتها.. بالتأكيد يا ذاتي.

–        إذاً ابتسمي.. فسأكون قريباً منك.

الفرق بين الدمعة والبسمة هو وصول خبر.. كلمة واحدة ينقلها بشير تطير قلوبا فرحاً بها.. وقد تكون الكلمة مفتحاً للشقاء.. إن الأحداث تجري لتغير المشاعر.. لماذا لانرى النور في الأحداث إلا بالتعب.. ويمكننا أن نبصر الحزن في كل همسة وحركة.. لماذا تتغير مشاعرنا من أجل كلمة ربما كانت من غريب لا نعرفه؟ لماذا تتعلق قلوبنا وتشتاق؟ لماذا نشعر بتغير الدنيا من حولنا من أجل قلب؟

شمس اليوم هي شمس الأمس.. لماذا نشعر أن كل شيء حولنا قد يتغير إذا تغيرت مشاعرنا.. النور يظلم.. السماء تسقط.. الماء يجف.. الدنيا تقسو.. وتبقى قلوبنا غريبة تتأثر بكل همسة ونسمة.

 

(2)

مرت الأيام كأهدأ ما تكون.. والأيام كالبحر تمر عليها فترات هدوء وسكينة فننعم بخيراتها.. نستمتع بكل لحظة فيها.. ونعيش في أحضان أمواجها تارة.. وتارة على شواطئها.. وبين خيرها وشرها نتقلب. ثم تتغير الأيام فتكون كأمواج هادرة.. تعلو فلا تعرف معنى للرحمة.. تلك الأمواج التي حملتنا في يوم من الأيام قد تكون هي عين الأمواج التي تغرقنا.. والقاع الذي يحوي الدر هو ذاته الذي يحتضن الموت.. والشاطئ الآمن الذي نأوي إليه.. يمسي صخوراً تكسر ألواحنا..

حدثته الزنبقة عن نفسها كثيراً.. وحدثها عن نفسه.. حدثته عن بذرة طيبة ألقيت في الأرض.. فأنبتت زهرة خير تكاثرت ونفعت.. ربما حمل البذرة طائر مثله.. حدثته عن أحلامها.. أمانيها.. أفكارها.. عن كل شيء في حياتها.. كيف حوى الغصن الرقيق كل هذا؟ بدت له كنسمة خير.. كصورة ملاك.. كزهرة من الجنة.. تأملها كثيراً.. كانت تحيا في عالم آخر.. بدا لها طائرها الدنيا كلها.. ورأت فيه كل الصور والأمنيات..

حدثها عن السهل والجبل.. عن الصحراء والمروج.. نقل إليها صوراً من العالم لم تكن تتوقعها.. حملها إلى قمم الجبال.. وعبر بها ساحات الأودية.. كانت رفيقة دربه في رحلاته.. تفرح إذا ذكر موقفاً يفرحه.. وتبكي وتتألم لو شعرت بتعبه.. لم تكن الزنبقة سوى طفلة مدللة لطائر محلق.. في صورة غريبة من صور الألفة.. جمعت بين طائر وزنبقة.

أشرقت الشمس.. واستيقظت الزنبقة.. فتحت براعمها لتستقبل يومها وقلبها.. مؤملة أن يأتي مبكراً هذا الصباح فقد آنست من نفسها رغبة في الحديث معه.. تحس بقلق غريب يساورها.. ترى هل سيأتي؟ لماذا تسأل نفسها هذا السؤال.. إنه يأتي دائماً.. ماسر توجسها في هذا اليوم؟ ما الذي تغير عليها؟

نظرت الزنبقة إلى الأفق وسرحت بفكرها بعيداً تنتظر مجيئه.. وبقيت ساهمة حتى المساء.

الطائر ذو الريش الأبيض.. لم يكن بعيداً عنها بقلبه.. كان يفكر فيها كثيراً.. يحلق بجسده.. وروحه تسابق تحليقه.. وقلبه مع زنبقته.. الهواء يقاوم أجنحته.. كأنه يريد أن يثنيه عن التحليق.. وقبل لحظات كان يقاوم ساق الزنبقة لتنثني.

ماالذي جعل الحنون يقسو ويغادر الزنبقة دون أن يخبرها عن وجهته.. إنها ليست القسوة.. بل الفرق بين طبيعة الطائر والزنبقة.. الرغبة في التحليق، والوصول إلى القمم العالية رغبة تصارع نفس الطائر، بينما كانت التربة الجيدة والمناخ الملائم كافيان لاستقرار الزنبقة.

هل نختار في حياتنا ما يوافق طبيعتنا؟.. أم نظل كطائر وزنبقة نظن أننا متفقون بينما نحن نحلق في عالم الوهم..

يدور في مرج الزنابق همس عن الزنبقة الصغيرة.. الأقران يتعجبون من الغيرة يتكلمون.. يقضون الليل على ضفاف الجدول يتسامرون.. يروون حلم الزنبقة وقصة الانتظار.. وينسجون القصص حول الطائر الأبيض..

–        قالت زنبقة: أنا أرى أنها حالمة.

–        ردت أخرى..نعم.. ولكن ما فائدة العمر لو كان كله واقعاً.

–        ردت ثالثة.. بصراحة هي سعيدة إذ تستطيع التخيل.

–        قالت رابعة.. عن نفسي أريد حباً كهذا.

–        وهل هو حب؟ إنها مجرد صداقة.

–        أياً ما يكون، المهم أن أجد قلباً يشعر بي.

–        ثم ماذا؟ لن تشعري بالراحة معه.

–        إيه أيتها الزنابق.. لتحلم كل واحدة بما تريد.

–    أنا عن نفسي أحلم بحقل كبير من الزنابق.. كله من نتاجي.. أرمي بذوري في كل مكان وأزهر.. ما الفائدة أن أحلم ثم أجد نفسي وحيدة وقد تغير العالم كله من حولي؟

–        الأحلام وحدها طموح.

–        عندك أنت.. أما أنا فمسئولياتي أكبر.

–         جيد يا حكيمة.. إذاً عيشي وموتي في واقعيتك.. وماذا ستستفيدين من حقل زنبقي؟

–        نظرت الزنبقة إليها “باشمئزاز” وقالت.. هذا هو الأصل.. لقد خلقت لأكون زنبقة.

–        ردت أخرى مؤيدة.. ووافقتها ثالثة ورابعة.

–        …

–    وخلق ليكون طائراً.. لماذا أصر على رفع رأسي لأعلى أراقب السماء.. بينما في الأرض صور من الجمال؟ أفضل أن أعيش زنبقة، وأرى الزنابق من حولي الزنابق..

ويدور جدل كهذا ولا ينتهي.

لم يكن الحال بين الزنابق الأكبر سنـًّا.. والأعمق خبرة.. والأكثر دراية بأفضل من الحال بين الزنابق الشابة. كنّ يتجادلن في غضب وينتقدن الجيل الجديد.

–        لم نسمع عن شيء كهذا.

–        نعم.. هذا غريب.. لقد انتهى الزمان.

–        أذكر أننا في شبابنا لم نكن نعلم عن وجود شيء اسمه طيور.

–        كنا نعرف فقط الزنابق والنحل.

تضحك زنبقة عجوز..

–        أنت لم تعرفي ولكن أنا عرفت.

ويسود الابتسام.. ولكن كان الكل متعجبًا.. بين منتقد وحاسد.

 

(3)

هاهو ذا الشتاء القارص يهبط بثقله على الدنيا.. يكسو الكون بحبيبات الندى المتجمدة.. ويغطي القلوب بموجة الجليد هذه.. تنعكس الشمس على صفحته الصافية.. منظر يحمل الحياة والموت.. ومن بين طياته تخرج أصول أشجار مبتسمة.. ونباتات تقاوم الموت والبرد.

لم يعد الطائر.. وكذا الزنبقة.. كان رحيلاً مشتركاً.. الطائر بجسده.. والزنبقة بروحها.. ترتجف أوراقها تحت سهام الفجر.. تفكر في حضن يأويها.. توهم نفسها بقربه.. تشعر بهمسه.. وتغمض عينيها علّها ترى طيفه.. تعيش في عالمه وعالمها.. نست أو تناست الزنابق من حولها.. والنحل قريب منها.. والطيور تعانق حقلها.. تسمع خفق أجنحة.. تنظر بلهف، تقلب بصرها في الفضاء.. تتمنى أن يكون هو.. ولكن…

–        في الليل.. نجوم وجليد.. وحدة وغربة.. تنظر إلى السماء فترى النجوم زاهرة.. تتذكره وتصرخ بملء صوتها.. يا طائري الحبيب.

–        ردد الليل صدى صرختها.. وسمعت صوت في الظلام يجيب عليها.. بنيتي.

–        من.. من ينادي؟

–        أنا عمتك الشجرة.. ارفعي رأسك.

–        رفعت رأسها لترى الشجرة تنظر إليها بحنان.. هذا أنت ياعمتي؟

–        بنيتي.. ما بك؟

–        …

–        الحنين إلى الحنون.

–        نعم.

–        لقد حضنت بيته هنا كما رعيت تربتك.

–        فرحت الزنبقة بهذا الكلام.. صحيح؟ أتعرفينه جيداً؟ هل لامست ريشه؟ هل سمعت تغريده؟

–        نعم.

–        إذاً أنت تعذرينني في حبه.

–        لم ألمك أبداً.. ولكن أشفق عليك.

–        لماذا؟

–        لأنه وهم يا صغيرتي.. سراب خادع تقتلين نفسك فيه.

–        كيف؟

–        أنت زنبقة.. وهو طائر..

–        وماذا يعني ذلك يا أماه.

–        يعني أنكما مختلفان.

شعرت الزنبقة بموجات الأسى تمزقها.. وتتناثر أوراقها من هول الصدمة.. هل هي حالمة في كل حبها ومشاعرها؟ أم أن كل شيء في الكون يحسدها على طائرها؟

لم يكن الطائر بعيداً عنها في تلك الأثناء.. رأته يأتي من عمق الظلام.. يبتسم لها.. يحتضنها.. يخبرها عن غيابه..

–        أين كنت؟

ابتسم لها..

–        كنت قريباً منك..

–        لماذا تأخرت؟

–        الشتاء.. الشتاء يا صغيرتي.

–        أريدك معي.. أحتاج إليك.

–        وأنا أفتقدك.. ولكن لا أتحمل برد الشتاء.

–        …

–        سأعود ثانية.. أقسم أني سأعود إن استطعت.

–        سأنتظرك.

–        أريد أن أراكِ قوية.

–        تصنعت الابتسامة.. لا تخف سأكون قوية.

حلق ثانية.. وغاب في أستار الظلام.

–        يا طائري الحبيب.. سأنتظرك.. سأكون قوية بما يكفي.. لاتخف علي.. سأنتظر عودتك بعد الشتاء.

ذرفت الشجرة دمعة على هذا القلب المنكسر.. وقهقه الليل بفخر على صولته في نفوس المحبين.. وأضاءت النفوس بالطهر.. وارتقب الكون ليرى ماذا تحمل الأيام..

إنها الآن بوادر الربيع.. إشراقة الشمس الدافئة.. وتغريد الطيور العائدة.. وابتسامة الكون الفسيح.. لقد مر الشتاء بقسوته.. وأقبل الربيع بفرحته.. تحملت الزنبقة الشتاء وهي شامخة.. وهاهي ذي الآن تنتظر طائرها.

أنفاس تتسارع.. وخفقات تتزايد.. ونظرات تترقب.. لم تعد الزنبقة تعرف الأرض.. لأنها دائمة التطلع إلى السماء.. تشعر بالتعب والألم في كل جزء منها.. بدت أكبر من سنها بكثير.. انحنت ساقها.. وبدت ذابلة مجهدة..

انتبهت على صوت خفقة تعرفها.. وصوت يصدح بألم.. نظرت إلى السماء بفرح..

–        طائري.

–        حط الطائر قريباً منها.. ابنتي.

الحقل كله ينظر إلى هذا اللقاء الأليم.. كان الطائر متغيراً متعباً.. ذهب لونه الأبيض وفقد بريقه.. وغارت عيناه وبح صوته..

–        قالت له في عتاب.. تأخرت.

–        ليس بيدي.. هجرتي كانت بعيدة.

–        ابتسمت.. والآن سأكون مرتاحة.. أحتاج لدفء صدرك.

–        ضمها بقوة.. وسقطت عبرة لم يدري يدرِ لها سبباً.. شعر بأنفاسها المتلاحقة.. هل أنت متعبة؟

–        لا.. الآن سأرتاح.. تشنجت ساقها.. وتغيرت أوراقها.

–        ما بك يا صغيرتي.. لا.. لا ترحلي.

ابتسمت له..

–        سأكون قريبة منك دائماً.. لقد وفيت بوعدي لك.. وظللت قوية حتى عودتك.

–        همس الطائر في حزن.. لا ترحلي.

–        ابتسمت الزنبقة.. وبهدوء رحلت.

–        أمسك الطائر الحنون بأوراقها وبكى في صمت. وتردد البكاء في كل الحقل..

لم يرفع الطائر رأسه.. ظل قريباً من الزنبقة.. ثم صاح صيحة رددتها كل نبتة.. وحملتها كل نسمة..

الأيام تمر.. وهي كفيلة بأن تنسي الألم وتبدل الدمعة بالبسمة.. ويبقى في قلب الطائر وفاءً لزنبقته.. وقصة يرويها لأبنائه.. وترى الزنابق الصغار في الزنبقة الراحلة صورة من الوهم والوفاء.. ولكن يشار إليها في تقدير.. لن تنتهي الدنيا من أجل زنبقة ففي عالم الطير هناك قلوب كثيرة.. تحمل له صافي الود.. ولو تأملت الزنبقة لوجدت في عالمها الكثير.. ممن حفظ الوفاء للحبيب.. فنقش أطيب الذكريات.. وزرع أطيب الثمار..

في أسفل الشجرة الأم تجد نبتة صغيرة.. نمت فوق قبر العاشقين.. يسميها البعض نبتة الوفاء.. وأطلق آخرون عليه نبتة السراب. بينما يرى البعض أنها شاهد وفاء على محبة نقية.. يرى البعض الآخر أنها رمزاً للوهم والتعلق بالخيال.. وأياً كان اسمها فهي جميلة.. لأنها نتاج تجربة.. وثمرة معرفة.. وأنوار على طول الطريق..

حياة بدأت بهمسة وشوق.. وانتهت بعذاب ورحيل.. أشرقت شمس وأظلم أفق بعد مغيبها، وكل جيل يروي لمن بعده.. بداية ونهاية.. ألم وأمل.. أشواق وأشواك..

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

التصنيفات
أكواخ الظلام القصة

العجوز

بدا لي أن صديقي كان خبيرًا بهذه الطرقات المظلمة.. ولولا أن الجو كان ممطرًا لاستطعت أن أرى أن الطريق متسخة جدًا.. كنت مستمتعًا بالرحلة على كل حال.. لم تكن هذه زيارتي الأولى لتلك المدينة.. لكنها كانت بلا شك زيارة متميزة.. تعرفت فيها على إبراهيم.. الذي بدا للوهلة الأولى غريب الأطوار.. ولكنك بمجرد أن تتعرف عليه ستعلم أنه ذو قلب أصفى من الماء.. وأرق من النسيم.. لم أعد أستغرب حديثه الدائم عن الجدة فوزية.. تلك المرأة الثمانينية التي كان يتكلم عنها بحماس غريب، فقد كان يجد عند تلك العجوز نوعًا من الراحة والأنس لم يستطع أن يعبر عنه بأكثر من حركات منفعلة من يديه.. ودمعة تترقرق كلما تحدث عن هذه الأسر البسيطة.

التصنيفات
أكواخ الظلام

همسة ود

ما الذي تريده أيها القارئ؟
ماهو بعد النص القصصي لديك؟
من ينظّر لهذا الفن لم يتفقوا.. ولا أرى أنني ملزم بنتيجة حوارهم.. فأنا هنا وحدي.. أحمل قلمي، أوراقي، حقيبتي، مشاعري، تجاربي، ونزفي. ارحل معي إن شئت.. أو فانظر إلى المكتبة العربية فستجد ألف كتاب وكتاب يمكنك ان تستبدلني بها..
سألني الكثير عن أسلوبي في الكتابة، معظمهم لم يكن معترضاً بل معجباً، ولكن بعضاً منهم كان يريدني أن أغير أسلوبي، ولكن ليس سراً قارئ العزيز بأنني لا أتكلف الكتابة، وأن ما أكتبه يأتي لوحده دون عناء.

التصنيفات
طائر المئذنة

الشيوعي

لم أفاجأ في حياتي بشيء بقدر ما تفاجأت بهذا الرجل الذي يصفه الناس بأنه شيوعي.. ولا أستطيع حتى الآن أن أصنفه.. ولم تفلح السنوات الثلاث في تحديد هويته بالرغم من وضوحه في كثير في الأمور حتى كانت ليلة رمضانية جمعتني به وكسرت بعض الحواجز.. وأيضاً تركت مزيداً من الحيرة بدأت القصة حين عدت من صلاة التراويح.. مسجد القرية يظل في النهاية مسجد قرية.. فكل شيء هناك مألوف ولولا موقعه المطل على النهر من جهة وعلى الغابة من جهة أخرى ماعرفه أي عابر من هذه المنطقة.. وكان جاري سعيد يقف على باب بيته وفي يده مجرفة، بدا لي أنه كان يستخدمه في تثبيت شتلة ورد أمام الباب، وحين رآني ابتسم كعادته واقترب من السور الذي يفصل بين منزله والشارع ومد إليّ كفه مصافحاً.

–        مرحبا.

–        أهلاً أستاذ سعيد.

–        هل ترغب في تناول كوب من القهوة معي؟.. أنا عازب هذه الأيام.. ابتسم في غموض ثم أضاف.. ولا شيء أسوأ من حياة شيخ عازب.

شعرت بالشفقة عليه.. ورحبت بالفكرة وقلت في نفسي علها تكون فرصة لمعرفته أكثر.. فوافقت ودخلت معه إلى بيته.. ولا أزعم أن منزله يشبه مساكن الشيوعيين في زهدهم.. فهو مرتب بأناقة وذوق.. وكان لوجود مكتبة في زاوية الصالة إيحاء يدل على ثقافة أهل المنزل.

وكالعادة في مثل هذه المواقف كان الحديث يدور حول الطقس والمحاصيل وأنباء القرية وحال أبنائها والمركز الصحي الجديد والمدرسة الكبيرة والمناهج الأوروبية.. وكنت طوال الكلام أحاول الربط بين المواضيع لشعوري أنه يقصد شيئاً من وراء هذا الحديث.. وفجأة ران صمت طويل وبقيت عيناه تراقبني وشعرت أنني أتعرى أمام هذا الشيخ الغامض.. حاولت تجنب نظراته أو طرح أسئلة عليه عله ينصرف عن مراقبتي.. وهو يرد علي بإجابات مقتضبة ولا يزيد على ابتسامته الغامضة.. وفجأة قطع الحديث ووجه سؤالاً نزل علي كالصاعقة.

–        أنت تحاول تصنيفي.. أليس كذلك؟

…. حاولت أن أنكر.. ولكنه قاطعني.

–        لا يحتاج أن تنكر.. أنا لا ألومك بل أنت يا بني تفكر أكثر من كل الذين قابلتهم في حياتي.

–        الحقيقة ليس تصنيفاً بقدر ماهو للتعرف على جاري بشكل أدق.

–        وماذا تريد أن تعرف يا بني؟

شعرت أن كل الكلام الذي كان في صدري قد اختفى.. ولم يبق سوى صمت وحبات عرق تنزل لتتجمع على أرنبة أنفي.. وشعور بالخزي يعتريني.

–    اسمع يا أمجد.. في يوم من الأيام كانت بلادنا في يد المسلمين.. كانت تحكمها الخلافة.. ومع أن الخلافة في ذلك العصر لم تخل من سلبيات.. أو هكذا صُور لنا.. إلا أنها في النهاية كانت قوة وعزة للمسلمين.. كنت وقتها شابـًًا مراهقاً أدركني مايدرك أقراني من النقص وغلبة الشهوة وقلة البصيرة.. فعشت أتمتع بشبابي وأغرق في ملذاتي دون مراعاة لقومي وعوراتهم.. حتى سقطت الخلافة وتسلط علينا الشيوعيون.. وعندها استيقظت ولكن كان كل شي قد تنكر لنا وبتنا في أسوأ حال.

وبشعور الشاب الغيور الأبي المحب للحرية رأيت أنه لازالت الفرصة سانحة لعمل شيء للإسلام.. فبدأت أطرق كل باب بقي ممن أعرف أنهم مسلمون فما وجدت باباً يقبل مني مساهمة في عمل خير.. وهكذا أصبحت أمشي طوال اليوم فلا أجد مسلماً يمد يده إلي لنقوم بشي لأمتنا وغاص البعض ممن كان يشار إليهم بالبنان في حمأة السياسة والتجارة.. فكرهت قومي وكرهت الناس وبدأت أبتعد عن الجميع.

كان العم سعيد يتكلم كأنه يقص علي قصة خيالية.. وجدتني أرحل معه في قصته ومع كل حرف كانت نبرة ألم تنطق في ملامح الشيخ وشفتيه المرتعشتين.

وعاد يتابع قصته.. في تلك الأيام بدأ الشيوعيون ينادون بشعارات خدع بها الكثير.. وكنت يومها أجلس في حانة اعتدت الجلوس فيها أيام اللهو.. فوقف أحد أصدقائي القدامى ممجداً الإلحاد فغضبت منه ورددت عليه.. كان عملي هذا مخاطرة.. فأي معارضة تعني القتل.. ولا أدري ما الذي دفعني للكلام.. أهو تمني الموت بسبب ما لاقيته أم غير ذلك؟.. المهم أنني رددت عليه فصاح رجل من آخر الحانة..

–        اسمعوا.. الواعظ السكير..

وتعالت قهقهات من كل الأركان.. وانهالت الألفاظ الساخرة علي  .. وأنا أحبس غيظي.. وفجأة قطع الضحك صوت هادئ يموت الرجال من الرعب عند سماعه.. ذلك هو عريف الشيوعيين في قريتي.

–        لماذا تضحكون؟

انسحب الرجال.. وبقيت في مكاني لم أتحرك منه.. فاقترب مني

-.. سعيد.. مابك يا سعيد..؟

 وارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة.. ولكنني في تلك الساعة لم أكن لأبالي بشيء.

–        يسب ديني.

–        وهل بقي دين يا سعيد؟

–        …

–        أنت ذكي.. وأحسب أنك ستكون مفيداً لنا.. لقد أضاعك قومك يا فتى..

ثم شدني من ثيابي وقال لي: أتظن أنني لا أعلم بنشاطك.؟

ثم ابتسم في مكر وأضاف..

-ولكنني أعلم أن قومك لن يستجيبوا.. فكر قليلاً.. وتعال معنا فالحرية تحت الألوية الحمراء.

كان ذلك هو بدايتي مع الشيوعية.. وسرعان ما ترقيت في مناصبها وساعدني بلادة القوم وغوغائيتهم.. وبدأ الكل يخاف مني ومع ذلك فقد كنت أنكر في نفسي بعض مبادئي.. ولكنني بقيت آخذ من كل الأفكار.

تنهد الشيخ بعمق كأنه يريد أن يلقي بقية القصة من صدره.. وكأن حملا ثقيلاً على قلبه كل هذه السنين.. وارتعشت شفته في حركة أعرف فيها معنى الألم وحبس الدمع.

كنت أثناء عملي في الحزب أتابع الروح الإسلامية في صدور أبناء شعبي فهالني أنني لم أر نبضة تبشر بميلاد.. وهالني أكثر أن أهل العلم انقسموا قسمين.. قسم قتله الإلحاد وكانوا هم الأمل الحقيقي.. وقسم كان أقل من الموظفين في وزارته يمجدونه أكثر من تمجيده لنفسه.. وكلما صاح صوت باسم الإسلام أسكتوه ووقفوا ضده.. فجهزت أمري وقررت الاعتزال.

لم أتمالك نفسي.. وسقطت دمعة على خدي سارعت لأمسحها بيدي.. وتراقصت على نسمة الريح شمعة في زاوية المطبخ فألقت بظلالها على وجه العجوز.

–        وهكذا يا بني بقيت كما ترى.. أعطي للناس ابتسامتي بعد أن أعطوني المرارة.

–        وماذا حدث بعد ذلك؟

–        عاد الإسلام.. ولكن في صورة يأباها الإسلام.. مسخ من الأفكار والمعتقدات.. وغاب الرجال الأحرار.

–        وأنت؟

–        أنا في قريتي كما رأيتني..

ومد يده بكوب آخر من القهوة.، شكرته.. كنت أريد أن أسمع البقية.. ولكن ظلال الصمت عادت من جديد.

تركته وعدت إلى غرفتي.. ألقيت كتبي على الأرض.. وأخذت أبكي..

-أين الإسلام.. لماذا حدث كل ذلك مع العجوز.؟

كانت الأسئلة تقفز إلى ذهني سريعة لتتحطم على صخور اليأس.. وفي ظلمة الليل امتدت يد الظلام لتطفئ شمعة النور.

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)