الشوارع تختنق من شدة الزحام.. والحرارة تذيب الإطارات.. والرطوبة تأكل الحديد.. والكفوف الصغيرة تحمل زجاجات الماء البارد وتبيعه على قارعة الطريق.. وبجوار إشارة ضوئية وقف طفل صغير يحمل بعض الزجاجات والعرق يتصبب من وجهه الأسمر.. وشعره الأسود الناعم قد صفف في وضع عشوائي ونظرة ساهمة منكسرة ستجبرك على التأمل في وجهه والشراء منه.
كان توفيق هو الولد الأصغر في عائلة مكونة من ستة أفراد.. أكبرهم لطف وهو في الثانية عشر من عمره يليه ثلاث بنات ثم يأتي دوره في الترتيب.. ويفصل كل واحد منهم عن الآخر سنتان قضتها الأم نعيمة في الرضاعة.. وتعمل الأرملة أحيانًا مع أولادها لتسد الأفواه الجائعة بشيء يأكلونه.. ولتسدد أقساط الغرفة التي تقيم فيها مع أولادها.. وعند كل مساء تنتظر نعمة عودة الأولاد بقلق..
– أمي متى سيرجع لطف؟
وتخفي الأم دمعة عن ابنتها.. وتعود بذاكرتها إلى الشهر الماضي.. يوم أن تأخر ولديها عن الوعودة.. ثم عاد توفيق لوحده ليخبرها أن أخاه معتقل.. ومن يومها وهي تنتظر توفيق كل ليلة وتخشى ألا تراه ثانية.
كان على لطف أن يمضي وقتًا في السجن لمخالفته للقانون.. كما اعتبره البعض متسولًا ومن هنا فقد تم التحفظ عليه لبعض الوقت لحين يأتي وليه ليتم التفاهم معه.. ولم يكن للطف أقارب سوى أمه ولكن المتابعة وتعيين محامي للطفل سيكلف الأسرة الفقيرة الشيء الكثير.. وهكذا طالت الأيام في غيابه عن أسرته.
وفي المنزل لم يتغير البرنامج كثيرًا ففي الصباح يذهب الأولاد للمدرسة.. وتأخذ الأم ولدها الصغير وتذهب معه لبعض الوقت تشجعه على البيع وتعلمه.. ثم تقف بعيدة عنه تبكي على زهرة طفولته.. وتلجأ إلى الله أن يقضي حاجتها وينهي فقرها.. ويبقي كرامتها وعفتها بعيدًا عن أيدي العابثين.
وفي الوقت نفسه كان توفيق يشعر بالغربة بعد أخيه.. ويقف وحيدًا تحت الشمس الحارقة ينتظر توقف السيارات.. ثم يجري بينها ليحاول أن يبيع مايحمله بين يديه الصغيرتين.. وهكذا تمر الأيام عليه.
حرصت نعيمة على أن تعلم أولادها.. وكرهت أن تمر أسرتها بنفس تجربتها.. ولكنها كانت تبذل من نفسها دون أن تشعر فتسرب المرض إليها في هدوء.. وبدأت صحتها تسوء. ولكي توفر لأولادها حياة كريمة حرمت نفسها من أبسط احتياجاتها.. وهكذا وجد المرض فرصته ليتمكن من جسدها النحيل.
عاد لطف من حبسه.. وعاد ثانية إلى الجري بين الإشارات الضوئية.. وهكذا بدأت الأم تشعر بنوع من السكينة.. ومرت الأيام ليحين وقت الدراسة لتوفيق الصغير.. فقلت مواردهم المالية بتغيبه عن العمل في الفترة الصباحية.. وكان لابد للصغير أن يبذل مزيدًا من الجهد في المساء ليساعد أخاه في إعالة أسرته.. وبدأت نعيمة تعمل أيضًا في خدمة بعض الأسر متحاملة على نفسها وعلى مرضها.. ومضحية بشيء من كرامتها في تحمل غضب الآخرين وتجاوزاتهم.. وتصدرت “هناء” البنت الكبرى للبيت فقامت مقام أمها في ترتيب أمور البيت والاعتناء بحاجات إخوتها المختلفة.
أيقظ صوت الأم المتعبة هناء من نومها.. فقامت إلى حيث موضع نوم أمها لتضع رأس الأم في حضنها وتذرف دمعة يشهد الليل بعمق ألمها.. وفي سكون الليل مزق الصمت دمعة ألم.. ودمعة أسى..
– ما بك لا تنامي يا هناء؟
– … هل أنت متعبة كثيرًا؟
– لا يا ابنتي.. فقط زكام وسينتهي سريعًا بإذن الله..
– إذًا لا تذهبي إلى العمل حتى تتعافي.
– ومن سيساعدنا يا ابنتي؟
– الله يا أمي..
– نعم يا هناء.. والله طلب منا بذل الأسباب.. ولذلك لابد من العمل.
– ولكنك مريضة..
– ليس كثيرًا.. وسينتهي هذا الألم بعد وقت قليل.. فقط أوصيك يا حبيبتي بإخوانك.
وأخفت هناء دمعتها.. وقبلت أمها ثم عادت تحاول أن تنام.. ولكن أذان الفجر كان يحمل خبر رحيل الأم عن هذه الهناء.. وهكذا رحلت نعيمة تاركة الأسرة في رعاية لطف وهناء.. وكعادة الألم في حياتنا يبقى أثره في نفوسنا ولكننا ننساه بعد فترة.. وهكذا عادت الحياة إلى طبيعتها وعاد كل إلى عمله.
تولت هناء أمر البيت بعد وفاة أمها.. فكانت بالرغم من صغر سنها تقوم به أحسن قيام.. وقام لطف وتوفيق بتأمين مصاريف البيت.. وفي كل مساء كانت هناء تنتظر عودة إخوانها ليجتمع شمل الأسرة الصغيرة في الغرفة المتواضعة ولينسيهم فرح الاجتماع مرارة الفقر والحرمان.. وفي الأعماق كان يلوح خوف من فقدانهم للحظات اللقاء.
– توفيق.. ابق أنت هنا.. وأنا سأذهب إلى الناحية الأخرى.. وانطلق لطف في مرح بينما بدأ توفيق يجري بين السيارات ليبيع مابيديه.
لكن صوتًا مزعجًا جعل لطف يلتفت إلى الخلف في خوف.. ليرى سيارة تحاول الهروب بينما جسد صغير ممدد على الأرض والدماء تنزف منه لتلون الأسفلت الساخن باللون الأحمر.. فعاد يجري إلى حيث تمدد جسد أخاه، وبين الجموع التي ازدحمت لترى الحادث كان لطف يضم أخاه إلى صدره ويبكي وكأنه بهذا البكاء يريد إرجاع أخيه إلى وعيه.
تأثر البعض بهذا المشهد.. وحاول البعض المسارعة في إسعاف الصغير.. ولكن المنية كانت أسرع للنفس الصغيرة من محاولات الرجال.. وفي شمس الظهيرة غادرت روح توفيق الجسد لترتفع إلى الله متخلصة من تعب الدنيا وهمومها.. وعادت الحياة تتشح بالسواد في عيون الأسرة الصغيرة.
– يا لطف.
– نعم يا أمين.
– انتبه جيدًا هذه الأيام.. فالباعة أصحاب المحلات قد بدأو يغضبون من بيعنا البضاعة بأسعار تنافسهم.
– وماذا سيفعلون؟
– لا ندري.. ربما يبلغون عنا ويقولون أننا نخالف الأنظمة وربما يتعرض البعض منهم لواحد منا بالأذى.
– لا عليك يا أمين.. الله معنا.. كما أن الدنيا لا يزال فيها خير.. وابتسم لطف.
أقبل المساء بثوبه الثقيل فغطى كل شيء.. وجلست هناء تتأمل في الأجساد الممدة وتتذكر أمها الراحلة.. كانت تظن أن الكل يغط في سباته.. ولكنها ارتبكت حين وصلها صوت لطف ليذكرها بوجوده..
– ماذا بك يا هناء؟
– لا شيء يا لطف.. لماذا لم تنم؟
– كنت نائمًا.. ولكن الجو الحار أيقظني.. هل أنت بخير؟
– نعم.. كنت أفكر في أمي.. وفي…
– ماذا يا هناء؟
– أفكر فيك يا لطف.. ماذا سأفعل من غيرك؟
– توكلي على الله..
– …
– اسمعي يا هناء.. لقد وفرت مبلغًا من المال.. يمكنك أن تستفيدي منه لو حصل لي مكروه..
– ومن سيبقى معي يا لطف.. ليس المال هو كل شيء أفكر فيه..
– وابتسم لطف وربت على كتف أخته.. وضمها لصدره.. توكلي على الله يا أخيه.. ولا تحملي هم الغد.
انطلق لطف إلى عمله كالمعتاد.. كان يشعر بالتعب في ذلك اليوم.. وأخذ يجري من مكان إلى آخر.. وتحت الشمس المحرقة كان يفكر في إخوته الصغار.. وفجأة وصله صوت أمين..
– لطف انتبه.
والتفت لطف وقبل أن يستوعب ما يدور حوله فوجئ بكف غليظة تضربه على وجهه… وضربة أخرى على رأسه ليفقد الوعي بعدها ويسقط بين يدي تاجر أزعجه كثيرًا أن يكسب هؤلاء الأطفال شيئًا يقوت أسرتهم.. وحمل أحد المارة لطف إلى المستشفى ليبقى في غيبوبة.. ولتبقى زجاجات الماء المبعثرة شاهدًا على قصة إنسان.. وفي الغرفة الصغيرة.. طالت ساعات الانتظار..
(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نسب المصنف – غير تجاري 4.0 دولي.
تعليق واحد على “البائع الصغير”
وراء كل بائع حكاية ..
ليت هذه القصة تصل إلى قلوب المسؤولين
أين المروءات في مجتمعاتنا ..
جزاكم الله خيراً