وقف بسيارته بجوار المبنى وأخذ ينظر في صمت حزين إلى الباب الأسود الكبير.. شعر بضآلته أمام هذا المارد.. أيعقل أن تمر الأوقات بهذه الصورة المرعبة في نفوسنا فتقتل كل لحظة جميلة عشناها؟.
التفت إلى الباب ثانية، لم يكن ينتظر خروج الأطفال فهو يعلم أن المدرسة مغلقة في هذا الوقت.. كانت الساعة الواحدة ليلاً والشارع خال من المارة.. رجع بذاكرته إلى الوراء وتذكر مدرسة القرية.. اليوم أول يوم دراسي له.. تذكر ابتسامته وهو يجري في الحديقة.. تحديه له في سباق يبدأ من مكان أمه وينتهي بنهاية الشاطئ.. المرور بين العربات في المحلات التجارية وهو يرتدي حذاء التزلج.. وكلما رجع لعربته يضرب ظهره في ابتسامة بريئة تعجز كل ريشة عن تصويرها.
تذكر أنه لم يأكل شيئاً منذ الصباح.. تحرك بالسيارة وتوقف أمام مطعم للوجبات السريعة.. نظر إلى المقعد الفارغ بجواره وابتسم ودمعة تنحدر من عينيه وخاطب المقعد.. ماذا ستأكل؟
لم يكن ينتظر الرد.. لكنه فعل كما كان يفعل دائماً معه.. لم يكن يراه مجرد طفل.. بل كان طفله وزميل عمله وكل شيء في حياته.
أوقف السيارة ثانية على الشاطئ المظلم.. سكنت نفسه لصوت الأمواج.. وعادت الصور في ذهنه من جديد.. حمله على كتفه.. وضع يده الصغيرة على رأسه.. ووضع ذقنه فوق يده.. وبدأ يكلمه.
أبي.. أريد هذا القلم.. وأريد هذه الأوراق الملونة لأرسم فيها.. واو أبي أريد هذه الحقيبة الصغيرة لأضع فيها أوراق ميدو.. ميدو الدب الصغير الذي لا يفارقه حتى في منامه. ويلتفت إلى ميدو المرتبط بصدره.. تريد هذه؟ سأشتريها لك.
أبي هذا اللون لا يصلح.. لابد أن تغيره لي.. أنظر لدي هنا ملابس كثيرة تشبهه لماذا اشتريته.. المرة القادمة أنا سأذهب معك لأشتري بنفسي.. يتركه يركض إلى غرفة مجاورة.. يعود إليه مبتسماً ويختطف قبلة تطبعها شفتاه الصغيرتان.. أشكرك أبي.
– أبي.. أنت كبير؟
– نعم يا بني.
– يعود لذهوله المفاجئ.. وأنا.. كبير، أم.. صغير؟
– أنت رجل كبير جداً.. انظر. ويقف الأب على ركبتيه ويقترب من الابن الجالس على السرير.. يساوي الرأس ثم يقول انظر.. أنا أصغر منك.
– ويبتسم الابن.. وسأذهب إلى المدرسة؟
– نعم وستكون أفضل مني.
– وأشتري حذاء تزلج جديد؟
– تريد حذاء جديد؟.. لديك اثنان.
– أريد الفضي.. أعجبني ويصلح مع هذا القميص..
وترتسم الابتسامة ثانية.
– حسناً سأشتريه لك غداً بإذن الله.. هيا الآن للنوم.
التفت إلى السماء.. النجوم تزهر.. وعادت ابتسامته ثانية..
– بابا.. أعطني حبل.
– لماذا؟
– الشمس ستختفي في البحر.
– ولماذا تريد الحبل؟
– سأرميه عليها وأرفعها فوق.. ليزداد النور.
آهـ لو علمت بما حدث لأبيك يوم رحيلك يا بني.. عاد لليل والبحر يتأمل في سكونهما.. وصوت الأمواج الخفيف يضرب الشاطئ في لطف.. وأضواء صغيرة بعيدة على امتداد الأفق توحي بالمشاركة في هذا الملكوت.
– خلاص.. يكفي كلام.
– ما بك يا بني؟
– أتعبوني بالكلام.. أوجعني رأسي.
يبتسم ثانية ابتسامة أقرب ما تكون للبكاء.. هذا الصغير … واختفت الكلمات من شفتيه.. وعاد ثانية لمكانه.
نزل من السيارة وبدأ يمشي.. الرمل ناعم.. ورجله تغوص فيه.. عادت الذكريات لنفسه.. أبي انتبه لا تتسخ وإلا ستغضب أمي.. امش هكذا ويتحرك بهدوء على الشاطئ.. يعود مسرعاً إلى سيارته.. يرتمي على المقعد.. كل شيء، كل شيء يذكرني به.
يتحرك بالسيارة الوقت قارب على الفجر.. يصل إلى بيته وقت الأذان.. يصلي الفجر ويعود إلى غرفته.. يمكنه أن ينام قليلاً قبل أن يذهب إلى عمله.. يغمض عينيه وصورة الصغير ترتسم أمامه.
(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)
تعليقين على “أول يوم دراسي”
ما شاء الله ..كتابات جميلة ورآئعة , راقت لنا ..
وفقكم الله ~
متابعون بإذن الله لفيض حروفكم .
رائعة “”