التصنيفات
رسائل إلى نفسي

لماذا المطار؟!!..

SONY DSC

10/8/2011م

المطار (صالة المغادرة).. الساعة 4:30 فجراً

بعض الناس يتحرك في الأمكنة العامة بدون حياء، لاأدري أي متعة يجد، ولكن قطعاً لن أكون مثله في يوم من الأيام، صحيح أنني قد أنطلق في بعض الأوقات ولكن أظل محافظاً على الآداب العامة.

وتبقى المطارات وصالات الانتظار هي المكان الأكثر سكينة بالنسبة لي، الضوضاء هنا مختلطة، كلمة عربية تتخلل كلمات جاراتي الهنديات، وصوت النافورة يشد من أعصابي فلا أفكر في الاسترخاء، أنظر لانعكاس وجهي في المرآة أمامي، تلمع من خلفها بين لحظة وأخرى أنوار السيارة في مدرج الإقلاع، ها أنا أعود لمنزلي مرة أخرى، أعود كالطائر لاأحمل سوى جناحي، هذه المرة فوق الجناح حقيبة المحمول بدلاً من حقيبتي الخضراء، ومنزلي هذه المرة ليس سوى المطار.

هل أحب السفر؟ نعم بلا شك، ولكن كيف أحب السفر؟ أحبه حراً بعيداً عن القيود، مريحاً بعيداً عن الكبر، أسافر وحدي وأتنقل في الشوارع أقرأ لوحات المحلات وأقرأ الوجوه، لم يبق لي من ذكريات الطرق القديمة الكثير، وقتها كنت مشغولاً بالجدران، لم أفكر في الأشخاص، ولم يكن الأشخاص يلائموني في كثير من الأوقات. حين نفكر في مراحل عمرنا نبتسم، ذات يوم كنت أرى الناس فأتحاشى النظر إلى بقايا القطع الساترة لهم من عري أجساد، وعري حياء، اليوم لا أتكلف كثيراً فلم أعد أرى بعين الشاب الملتهبة، بل بعين الرجل الباحث عن الحب والسكينة.

يتشارك الرجل مع الطفل في سنوات الانحدار، حين يصل الشاب إلى القمة يكون مختلفاً، لايعجبه الطفل بأفكاره الصغيرة، ولا الشيخ بأفكاره الرجعية، وحين يبدأ في الانحدار يلتقي بالطفل في كل مرحلة، حين يكبر قليلاً يقابل المراهق فيتفهم طبيعة المرحلة، ويعرف فورة الشباب، وقد ينافسه قليلاً ولكن بعين أكثر تعقلاً وشهوة أقل توقداً، ثم إذا كبر أكثر قابل طفل المتوسطة فشعر بالفخر به وأفكاره، وفكر في مستقبله وبدأ حياته التربوية كأب ناضج، ثم إذا كبر أكثر قابل الطفل فاحتاج إلى الأم، إلى الحب، إلى الحنان، ويدفن نفسه وقتها في بيته مع رفيقة الدرب باحثاً عن ابتسامة، عن كلمة، عن واحة أسرة وعبير محبة.

جيراني في المطار مزعجين، بعضهم واقف والمقاعد شاغرة، يتكلمون كلهم في وقت واحد، تقال الكلمة فيرددها الآخرون موافقين لها ثم يعارضونها مرة أخرى ويؤيدون المعارضة ثم يعارضون وتدور الكلمات كأنها قرقعة غير منتظمة، فارغة كفراغ رؤؤس الكثير ممن قابلتهم في حياتي.

في المطار لاأحد مقيم، الكل مسافر، ربما أحبه لهذا السبب، لأنني أسير بحرية دون تطفل من أحد، أيهما أشد إزعاجاً تطفل الآخرين أم ضحكات المطار وعبارات ممجوجة يمازحون بعضهم بها؟ لايهم فعلى الأقل سنرحل بعد قليل، ابتسم لهذا الخاطر، سنرحل، نعم بالضبط سيرحلون معي في نفس الرحلة، المرة القادمة ساحجز على منطقة مختلفة، كل الطرق تؤدي إلى بيتي.

جارتي ليست هندية، فلبينية، كبيرة في السن ومحجبة، يبدوا وكأنها تقيم هنا منذ زمن، مالذي يجعلها تقيم في منطقة غريبة عنها عادات ولغة؟ طلب العيش. وهل انتهى العيش في أرضها الخضراء ومزرعتها المثمرة، وحيواناتها الداجنة!

العالم بدأ يهدأ من حولي، هذه ميزة الرحلات المتأخرة، كالأطفال يهدهم اللعب والكلام فينامون، وتبقى النافورة تصب لتكوّن في عقلي جدراً مبللاً من التشوشات، تمتد الأفكار في رأسي خطوطاً لاهوية لها، أرصها بجوار بعضها لأتعرف على ملامح تجربة تستحق التدوين أو فكرة جديدة أبني منها مساراً جديداً. وأغمض عيني لأبحث عن نفسي في المطار، ولأنتظر النداء الأخير لرحلتي المغادرة.

(الصورة بعدسة: ريان المنصور)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

3 تعليقات على “لماذا المطار؟!!..”

” و أغُمض عيني لأبحث عن نفسي في المطار، ولأنتظر النداء الأخير لرحلتي المغادرة. ”

تروق لي مساحات التأمل بين الحروف المنتقاة بعناية ,
والنظرة الناضجة للحياة ..
شكراً لكم : )

جو مختلف ينقل القارئ بين مساحة الحوار
إلى مساحة الرؤية ومنها لمراحل الحياة والوجدان
تقحمون بقلمكم الحياة في الجمادات
فتغدو الأماكن المملة ممتعة
أشكركم على وقت مفيد أمضيته في التأملات
بين الواقع والخيال هنا
بوركتم استاذ عبدالله. 🙂

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.