التصنيفات
رسائل إلى نفسي

الغجري

d

12/05/2012م

المنزل (الصالة).. الساعة 02:20 مساء

رأيت الغجر مراراً، في البداية رأيتهم بدون صوت، وكان الصوت الوحيد الذي سمعته حديث الناس عنهم، هل رأيت هؤلاء؟ هل تعرف عاداتهم؟ ثم رأيتهم فلم أفهم منهم شيئاً، ولم أتعامل معهم لأحكم عليهم لأنني نفرت من الاحتكاك بهم.

في البلاد العربية كان الغجر ذوي بشرة بيضاء، وشعر أشقر، وجمال لم أستطع تكوين ملامحه لأنني لم أشاهد واحداً من أولادهم عن قرب، أو تأملت صورة لأحدى بناتهم.

في أوربا كان الغجر أقرب للهنود ببشرتهم السمراء وملابسهم البالية، بعض الصور بقيت في ذهني، كالبيوت المكونة من صفائح حديد يجمعونها في عشوائيات أشم رائحة الدسم المنبعث من شوارعهم نتيجة غسيل أوانيهم الحديدية، وصوت مواء القطط يذكرني بمطابخ الثكنات العسكرية.. وكعربات الخيول التي تنقل عرباتهم القذرة ذات قطع القماش الملونة والزخرفات والنقوش.

في الجزء الآخر من الفكرة تقع المدينة المحصنة بجدرانها الحجرية الشاهقة الارتفاع ذات الدلالة المعمارية التركية الشامخة، وأجد نفسي أسير خارج أسوراها تارة، وأركب الخيل تارة أخرى، وأركب حماراً في بعض الأوقات، وفي أوقات كثيرة أجدني مستلقٍ تحت شجرة أروّح عن وجهي بقطعة ورق أو قماش أدفع الرطوبة وأراقب بوابة المدينة.

لي قصص مع هذه المدينة، أسرق منهم ويجلدونني، ثم أقابلهم لأبيع لهم وأسرق منهم وهم يضحكون مقابل خدمة جيدة أقدمها لهم متمثلة في بضاعة نادرة أو غير نادرة، أو حسن تعامل وكياسة ومعرفة بأسرار التعامل مع النفس الإنسانية، ثم يحين المساء وينصرف كل إلى شأنه، فلا أنا ممن دخل معهم فسكن واستوطن، ولا أنا ممن بني خارج الأسوار واستقر وتحضر.

الإنسان بدون هوية تائه بلا مستقبل، كأشجار البرية المبعثرة هنا وهناك دون تنظيم، ولا ثمر يبذل الإنسان جهده للبحث عنه والحصول عليه، هوية الإنسان ليست في واقعه، بل في جذوره، واقع الإنسان هو قطعة ديكور تتحرك باختلاف المشاهد، وللممثل امتدادات زمان وتأريخ وحضارة، ومكان نشأة وترعرع وحياة، وبشر يحن إليهم ويعود لهم.

اسمع صوت الخيل في صدري، أشعر بهبات النسيم، وأرى أمامي بامتداد الأفق الجدران الصخرية، لبس الثوب نفسه لم يفلح في إعطاء شعور بالانتماءـ لماذا ينتمي الغجري لقطعة صلبة باردة والأرض تحت قدميه لينة دافئة.

يمشي الإنسان على امتدادات الطريق، ويعبث بكل صخرة فيه ثم يبتعد قليلاً ليوقد ناراً فيتدفأ ويطهو طعامه ويلتف بلحافه ويستمع إلى الليل وأصواته وحيواته المتنوعة، ثم يصبح ليرفع رأسه ويستنشق عبير حرية أحرقتها الشمس ويتابع الطريق.. يصفر، يغني، يلعن، يضحك، ينادي، هو سيد مكانه طالما كان وحيداً.

قوافل غجر نحن يا نفسي، لم نتأقلم مع المدينة ولم نستقر في البرية، نقيم في عربات متنقلة ونوقد طعامنا على حطب نأنس لسماع صوت تكسره، أو موقد غاز نحمله معنا في كل مكان ونشم منه رائحة العبير.. نحن رحّل رسمنا الخارطة بأقدامنا، ولم نحصل على قطعة وطن نستقر عليها ونبني حضارة.. نحن شوق وحنين لازوايا له، يدور ويدور ويعود من حيث ابتدأ دون أن يقف في مكان ليكون له ذكريات.

 

(الصورة بعدسة: Slideshop.com)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

تعليقين على “الغجري”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.