حاولت الكتابة مباشرة قبل غياب أنفاس المكان، للمكان نبض وعطر، نفس نشعر به يلامسنا فينقل إلينا شيئاً من شعوره. بين مراكش والرباط مروراً بالدار البيضاء وقلاع الموحدين وقبور السعدين وساحة الفناء والراقصين والعرافين والحواة والكتبيين والفقهاء والمحدثين والقمم والنهر ومقاهي القهوة والشاي الأخضر ومطاعم الطاجين المنتشرة في كل مكان وعربات الحلزون والعاملين المهارة يتفننون في الطين والرخام والصوف والشعر والنحاس وصور التناقض في الأشكال والتوجهات واللغات وطاحونة الأعمال.
بين الأمازيغ والعرب والأفارقة والأوربيين والآسيوين وأشكالاً وألواناً وأطناناً من الأجساد المتتابعة على المعالم تزور التأريخ متمتمة في حزن كان هنا مجد وضاع، أو هامسة في نشوة هؤلاء من هزمناهم، أو ناظرة في تأمل محايد أو ربما منحازاً لصف دون آخر لاعنة شقاء قوم وحمقهم في ضياع هذه الأماكن غير شاعرة بالدماء المهدرة.
بين ابتسامات سعادة بوجودي ونظرات مقيمة لابتسامتي وردود لبقة لاستفساراتي وأسئلة مكتشفة لمعلوماتي وتنوع في التخصصات وعمق في التأهيل واهتمام بالمعرفة ونقد واضح صريح منطقي للأفكار وتعبير مباشر ونقاش جاد.
بين محابر المالكية وأمير الأدارسة وجيوش المرابطين وأساطيل الموحدين واقتصاد وقوة السعديين وأمن العلويين وقلاع وحصون وقصور تنتشر في كل مكان. بين رجال ونساء وأطفال وفقراء ومحسنون وعربات وخيول وقطعان وحافلات ودراجات هوائية ونارية ومساحات خضراء وجبالاً جليدية وقطرات ونهر وبحر ومحيط وألف فكرة للانتقال والتعايش، بين أشجار الزمبوع وأنواع البرتقال وزهور الجوري وكلاماً عمره تاريخ كيف سأجمعه لكم في كلمة. بين هذا كله وجدت نفسي، لم أفكر في التدوين بداية، لكن التأريخ والانتماء يفرض نفسه.
وماذا بعد يا مشرقي؟ ما الذي حملته من كل هذا التنوع؟ وأفتح ذاكرتي لأجد الصورة كاملة لايمكن اقتطاع جزء منها فالمزيج تناغم إلى حد يشعر بالألم والحسرة لقطع جزء منه.
النقاشات المتنوعة تعيدك للجودة والتسويق، لكن الملامح المالكية الجادة تحملني مباشرة إلى المحابر والحلق وطلبة العلم وصور التعليم التقليدي المؤصل والحياة الجادة التي أخرجت هذه النماذج.
الجلباب أشعرني بالانتماء للتاريخ، لكل مراحله، لثمت يد ابن تاشفين العادل، وحللت المنصور الذهبي، ورثيت البائس المعتمد.
حاولت رسم الخريطة في ذهني لكنني توقفت، لن أرسمها بأقلام الماضي، أريدها بأقلام أبنائها، هنا الراشدية وسمة الجدية الواضح، هنا ابتسامات وتعليقات المراكشي، هنا مدنية الرباطي، هنا أناقة الدار البيضاء، هنا اهتمام ورزازات، وحرص تزنيت، وبين هذا وذاك حفاوة وحفاوة وحفاوة وحفاوة وحفاوة لاتنتهي مهما كررتها.
لا تغامر بطرح موضوع مع المغربي مالم تكن مؤهلاً كفاية في التخصص، كل كلمة سيكون لها دلالة لابد من استحضارها وتفنيدها ونقاشها والتأكد من تأصيلها وتتبع فروعها.
يا للمغرب، ترفض أن تكون مقالاً يكتب، لأنها حياة أعيشها في كل صورة من الصور التي مررت بها، الأسماء والأحداث لازالت حديثة عهد، طرية كطين في يد نحات لم يجف بعد. متى سينتهي أثرها؟ لا أدري، ولكن مر وقت طويل لم يكن للمكان هذا التأثير، هل أخطأت أنني لم أقرأ عن تاريخها قبل سفري؟ أم هذا كان من توفيق الله لي؟ لا أدري كذلك، حين أعود لتأريخها سأعرف هل كنت موفقاً أم فاتني شيء من التفاصيل.
المغرب أصيلة كقبائلها، صافية كسمائها، هادرة كمحيطها، رحبة كمساحاتها، هادئة كصحرائها.. المغرب كغيرها من الدول.. زرها بحب ستحبك.. تأدب معها ستتأدب معك.. ستجد نفسك فيها.. أي شيء ستراه بدأ منك.. فالجمال يبدأ منك وينتهي إليك والقبح كذلك لن يتجاوزك.
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نسب المصنف – غير تجاري 4.0 دولي.
16 تعليق على “مشرقي في المغرب”
انت دائما مشرق
وفقك الله بعلمك وبحلمك وأدبك
بارك الله فيك
تسلم يا يونس..
وأدام الله المحبة والصفاء..
سعدت بك.. 🙂
سماء المغرب الحبيب جدااا ممتنة لسمو هذا الحب الزلالي والتوصيف الابداعي الألق .
شكراً يا أسارير..
وأنا ممتن للمغرب..
أرضه وسمائه وبحره وأهله..
🙂
يا محب ما تركت لنا كلمات ولا ٲحرف ننسجها تعبير عما تركته زيارتك الخفيفة ﻷرض المغرب من محبة وشكر وتقدير..
أنت رائع
يا سي محمد..
أنت الرائع..
وضيافتك رائعة..
وأخوتك أروع..
سعدت برفقتك..
دمت بخير.. 🙂
احييكم على احساسكم الجميل وشعوركم النبيل، ابدعتم في التصوير والوصف، وتألقتم في التعبير والسرد
واني لأتساءل كيف لو زرتم مدن الشمال، وشاهدتم الأثر الموريسكي على مستوى الثقافة والمطبخ والملبس والحدائق، حيث اختلط ماهو مغربي امازيغي بماهو اوروبي اندلسي، ليشكل مزيجا حضاريا فريدا من نوعه، يظهر اثره في فن العمارة وفي بناء البيوت والقصور والمساجد والمآذن وحتى الوان الحيطان في الاحياء
ولن احدثكم عن جمال الصحراء والواحات والشلالات،….
وساترك لكم اكتشافها في الزيارة المقبلة ان شاء الله
شرفنا بزيارتكم وسعدنا بما تعلمناه منكم،،شكر الله لكم وتقبل منكم ، وجزاكم عنا خير الجزاء
اسأل الله العظيم ان يبارككم ويبارك بكم وفيكم وعليكم
سأزورها بإذن الله..
وسأحرص على زيارة كل شبر في المغرب..
جبلها وصحرائها وسهلها..
سعيد بكم وبقلوبكم الطاهرة..
كونزا بخير يا أهل المغرب..
أستاذنا الفاضل،
أسعدتنا بحضورك
أثريتنا بمعرفتك
زدتنا تحفيزا بأسلوبك
تركت بصمتك، علم و تواضع و إنسانية..
كل الشكر و التقدير
حفظك الله ورعاك
شكراً يا بشرى..
وأنتم أضفتم بطيب أرواحكم وحسن ضيافتكم الكثير..
كونوا بخير.. 🙂
وصف دقيق و شيق السرد و الحبك من عين أحبت المغرب فعبرت عنه بأسلوب المتفائلين.
مقالك جمع بين ثناياه الفسيفساء المغربي في نسق جميل ينم عن طيبة روحك و جمال نفسك و دماثة أخلاقك و عين ثاقبة نظرت للمكان بإحساس مرهف فبادلها بأحاسيس مضاعفة جياشة.
المكان نبض كان يسري في عروقي يا عادل..
تدفق حباً ربطني بالمكان والبشر..
ثم نقلني عبر مراحله التاريخيه..
سعدت بكم.. 🙂
السلام عليكم
حياك الله ..ابدعت في الكتابة وابدعت في التعبير .بل الابداع هو دقة الملاحظة وحسن التوصيف ..ما تركت لنا ما نرد به او نعلق فما بعد الحسن حسن ..زادك الله تألقا ونفع بك وبموسوعيتك ..ونرجو من الله ان ترى منا ما تمنيت من بر ووفاء ونرى منك ما نرجو من تألق وعطاء
أعتز بكلامك يا عبدالخالق..
وأنتم أساتذة المعرفة والإبداع..
سعدت بمعرفتكم.. 🙂
بارك الله فيك يا اصيل.. اعجبني سردك لتفاصيل رحلتك لبلدك التاني المغرب شرفتنا بزياترك . ننتظر زيارتك لنا يا امازيغي
بسم المحيه
من الاعماق
وحر الاشواق
كنترجاوك ترحع لينا 🙂
تحية_من_اختك_في_المغرب
بإذن الله يا حبيبة..
سأسعد بزيارتها مراراً وتعلم الأمازيغية على يدكم ليكتمل الوصف 🙂
لا تتخيلي مدى وفائي وتقديري لكم..
دمتم بخير..