التصنيفات
قبور الياسمين

وصول ورحيل

المكان الذي فيه النقطة أقرب مايكون إلى قمة جبل، لا أدري كيف أصف جبلاً بهذه الصورة، تعودت أن تكون القمة ضيقة وصخرية، ولكن القمة هنا منبسطة نوعاً ما، والأرض كلها خضراء، لم أر أشجاراً كما رأيت هنا، الدنيا كلها مخضرة، وبعض الغابات تظل خضراء حتى في الشتاء. في أعلى نقطة يقع مركز الشرطة، غرف مبنية من الخشب، يحسنون التعامل مع الخشب بصورة تدعوا إلى الإعجاب، كل حياتهم من صنع الغابات، المنازل، والأثاث، بل وأبسط أمور الحياة.

بقيت الحافلة متوقفة قليلاً، ضاق الناس وفي النهاية سمح لنا بالذهاب، لماذا نعجز عن وصف السعادة؟ وكأن اللغة لاتحوي كلمات للتعبير عنها، أم أننا من كثرة المرارة في حياتنا لم نتعلم إلا معاني الشقاء، كنت أتلفت خوفاً من أن يلحق بي أحدهم ليعيدني أو ليأسرني. بكيت؟! نعم بكيت، ودعوت كثيراً، في البداية لم ألحظ الفرق، ولكن بعد قليل بدأت أستوعب ماحدث، لقد تمكنت من الدخول. استمر الحافلة تسير، وعند الفجر وصلت، كنت متعباً ولكن لايهم، كان المحطة خالية من الناس عدا سيدة منقبة ومعها رجل كبير في السن يبدوا أنه أبوها، وراكبين أو ثلاثة غلب أحدهم النعاس فنام فوق كرسي المحطة في انتظار حافلة تقله لمكانه.

– توقفت سيارة أجرة ونظر صاحبها بابتسامة مريحة، مهاجدين؟

– قلت: نعم.

توقعت أن يكون قد أخطأ في الكلمة، ثم اكتشفت أن هذه طريقتهم في التلفظ بها، لايوجد لغة حوار مشترك بيني وبينه سوى حركات يديه، فهمت منها ومن تعابير وجهه أنه سعيد بوجودي، لم أفهم كيف حدث الأمر، وكيف وصلت إلى هنا، مشاكل الطريق المفاجئة سهلت الأمور، وقبل كل شيء قدر الله. بعد قليل وصلت لبوابة عسكرية مغلقة، توقفت السيارة وأشار إلي فنزلت، وتحركت سيارة الأجرة. في زاوية البوابة يوجد غرفة خشبية صغيرة يطل منها حارس وجه سلاحه نحوي، وكشاف قوي ينير باتجاهي ليكشف عن مساحة خرسانية أقف عليها، وصف من الأشجار يقف على طول المسافة المشكّلة لسور المكان، لم أتبين شيء مما خلف البوابة، ثم وصلني صوت الصلاة، وخرج رجل أمن آخر غير الأول وتوجه نحوي.

– بادرني بلغة غير مفهومة، وحين رأي حيرتي سألني بانجليزية ذات لكنة غريبة: ماذا لديك؟

– ألقيت عليه السلام فرد علي، ثم عرفت بجنسيتي وتلعثمت فلم أجد عبارة أقولها.

– ابتسم ومد يده مصافحاً ورد بنفس اللهجة الغريبة: لابأس عليك، لقد وصلت، أدخل لتدرك الصلاة ثم نتفاهم.

فتح الباب ورأيت خلف الباب ساحة صغيرة نسبياً، يقع فوقها في الجهة اليمنى مبنى كبير، وفي الجهة اليسرى مجموعة غرف خشبية وصفاً من صنابير المياه التي اصطف الناس حولها للوضوء. وقفت معهم وتوضأت، أتذكر ياأخي أول ماء لامس وجهي في هذه البلاد، كان الجو بارداً بالنسبة لغريب مثلي، والماء بارد، وصوت الصلاة يسري في أعماقي، وأنا أرحل عن عالمي، صوت سقوط الماء، وكلمات مبعثرة لاأفهمها، وتذمر شاب غاضب قريباً مني وهو يشير بيده لزميله، وشاب آخر لايبدوا أنه يشعر بالبرد الذي أشعر به، لبسه يدل على ذلك، وفي وسطه مسدس وسكين، كنت لأول مرة في حياتي أرى رجالاً بهذه البساطة. وأخيراً وصلت إلى ماظننته المحطة الأخيرة في رحلتي، أو بالأصح في حياتي، كنت أشعر بالنور يشرق من كل شيء، بدا لي أن الناس لم يشعروا بوجود غريب بينهم، وكنت أشعر أنهم ليسوا غرباء، ألفت كل شيء في تلك البلاد منذ النظرة الأولى. وهنا رأيتك يومها، إن كنت تذكر.

الأيام تمر بسرعة لا تشعر بانتهائها، تنتهي من عمل لتنتقل إلى الذي يليه، الأعمال كثيرة، فهناك التدريب والقتال، وهناك الدعوة والتعليم، وبين هذا وذاك هنا قلوب مؤمنة معلقة بمحبوبها تبحث عن الموت في كل لحظة وتنتظر لقاء الله. أخي..

من أراد أن يعرف معنى الأخوة فلينظر إلى الأنصار في الخنادق، يعانقون البنادق، ويقتسمون اللقمة بينهم، يضحكون، يلعبون، تدك مواقعهم وهم يصنعون القهوة وينشدون، وفي النهاية يقتلون ليبتسمون، لن أتحدث عنهم فقد عرفتهم أنت كما عرفتهم أنا، يوم أن كنا في جبهة واحدة..

أتذكر يوم أن قيل لنا انتهى القتال، أتذكر مقتل الأنصار، كان الموت خيراً لنا، كنا نتمناه ولكنها مشيئة الله يؤخرنا لنتابع الطريق ونكمل المسير، وتفرقت بنا السبل بعد أن كنا مجتمعون، وعدنا للرحيل من جديد. أتذكر موقفك يومها، لم أذرف حينها دمعة واحدة، لا أدري لماذا، كان الكل يبكي، وكنت أبتسم لأشجعك، ومن يومها “حُرِمتُ البكاء”.

لم نغادر تلك البلاد كما يفعل الناس عادة، كنا نواة إرهاب كما وصفونا بعد ذلك، فكان لا بد من خروج متميز لنا، نغادر البلاد في حراسة مشددة، لا نحمل سلاحاً مادياً ولكن أسلحتنا المعنوية أقوى من آلاتهم، لم ندخل من باب المطار ولكن أدخلونا مباشرة إلى طائرة كانت تنتظرنا لتأخذنا بعيداً عن أراضيهم، كنت وحيداً حينما دخلت هذه البلاد أول مرة، واليوم أخرج منها وحولي مجموعة من رجال الأمن كلهم مسلحون خوفاً مني حتى لا أدمر بلدهم. في الطريق مررت بعدة أنهار، زرقاء صافية تعكس زرقة السماء، الغابات الكثيفة، وقلعة عثمانية تشمخ وسط الجبال، وسكان بسطاء يلوحون لي ويشيرون بأصبعهم، أطفال واقفون على جانب الطريق، ونساء يبكين في وداع مؤلم.

أدخلوني إلى صالة صفوا فيها العديد من الطاولات، وضعوا حقيبتي في مكان، وأحضروا كلاباً مدربة لتفتشها، جاء رجل وأشار إلي ليفتشني، خلعت بذلتي، وملابسي، لم يتركوا علي سوى ملابسي الداخلية، حتى هذه أرادوا نزعها ولكنني رفضت، تأكد أنني لاأحمل شيئاً، وأرجع لي حقيبتي مرة أخرى.

صعدت إلى الطائرة، ألقيت بنفسي على المقعد المخصص لي، لم يسمح لي بالاختلاط ببقية الركاب، وضعت السماعة في أذني وسمعت الشيخ العجمي يقرأ: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) وضعت وجهي بين كفي وبكيت، فقد كانت نفس الآية التي سمعتها يوم أن قتل من إخواني الكثير…

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: في الطريق> يتبع > الحلقة التالية: الرحيل الجديد)

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

3 تعليقات على “وصول ورحيل”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.