التصنيفات
رؤى

الأدوات

(قبل أن أبدأ أي مشروع أجهز أدواتي، وفي هذه الرواية أضع أدواتي بين أيديكم)

حين قررت العودة إلى مسودات أوراقي لم يكن لدي فكرة واضحة عن هدفي، فقط شعرت بالرغبة في الكتابة، ولأنني أعتقد أنني تغيرت كثيراً بسبب الأحداث التي جرت في السنوات الثلاث الأخيرة، فقد كنت أتخيل أن الشيء الذي سأكتبه سيكون مميزاً.

ترى ما الذي يحدث التأثير في الكلمات؟ لماذا تتميز بعض الأفكار بتميز كلماتها؟ في بعض الأوراق التي تمتلئ بها مكتبتي وجدت قصاصة تحدثت عن هذا التأثير للكلمات، لا أذكر بالضبط متى كتبتها، ولكن بعض عباراتها كانت تشير إلى فصل الشتاء القارص، وبالتالي فلابد وأن تكون قد كتبت في الفترة التي كنت فيها طالباً في روسيا. والورقة باختصار تعزو الفضل في التأثير إلى ثلاثة عوامل، يرتبط أحدها بالمتحدث نفسه، والعامل الثاني متصل بالمستمع، والأخير يؤيد مبدأ ذات الفكرة وتأثيرها على الطرفين الآخرين، أي أن الفكرة ذاتها بغض النظر عن أي من العوامل هي التي تحدث التأثير.

وبغض النظر عن وقت كتابتي لهذه الكلمات، أو عن المكان، بغض النظر عن هذا كله، فأنا أعتقد أن الكلام الذي كتب في القصاصة صحيح، ولذلك فما سأكتبه لن أتكلف فيه الأسلوب، وسأعرض فكرتي بأبسط صورها، وسأكون صادقاً فيها، ويبقى العامل الثالث المتصل بالقارئ أو المستمع وهذا مالا شأن لي فيه. يكفي أنني قلت ماأريد واجتهدت في استيفائه لكل أطرافه التي توضحه، ويبقى دورها هي إن كانت ستقرأ هذا الكلام وفي نفسها القبول له، أو أنها ستغض الطرف عما يمكن أن أقوله وتراه إغراق في العاطفة كما كانت تسميه، وبالتالي ستجد سبباً لرده.

حين كتبت المسودات كنت في السابعة والعشرين من عمري، وحين راجعتها كنت في السادسة والثلاثين، تسع سنوات مرت، لو عدت إلى هذه السنوات فسأقسمها إلى مرحلتين، الأولى ومدتها ست سنوات كانت تشبه الضياع، أسير فيها بلا هدف فعلي، صحيح أن هناك أهدافاً مرحلية كثيرة أنجزت، ولكنها لم تكن أهدافاً حقيقة، بمعنى أنني حين أسأل نفسي ماذا جنيت منها فسوف أتردد في الإجابة أو بالأصح أعجز عن الإجابة، مرحلة ضبابية كان السم فيها يسري تحت الجلد دون أن أشعر بألم، وفجأة كانت كل مشاعري وحياتي تلتهب نتيجة السم الذي انتشر في كل ذرة من فكري ومن بدني. كان فيها صورة استقرار ولكنني لم أكن مستقراً. ربما أكون أوهمت نفسي أنني حصلت على الاستقرار مع أنه كان أشبه بالسراب، تماماً كمن يبني له بيتاً من القش، أو يضع خيمة في الصحراء، فإذا هبت الريح اقتلعت بيته ووجد نفسه في العراء، وهكذا مرت السنوات الست بريحها وترحالها وغربتها وألمها، وفي نهايتها استيقظت لأبحث عن نفسي. نعم تماماً هذا هو المصطلح المناسب، أبحث عن نفسي، حتى تعرفي على أسرتي كان جديداً علي، كأنني أراهم لأول مرة، من هم؟ ماذا يفعلون معي؟ كانت الصدمات تتوالى وتنسيني كل شي، ذكرياتي التي كنت أتغنى بها لم تظهر في خيالي ولا مرة واحدة، فالواقع كان قاسياً يشغلني عن الذكريات، حتى أحلامي في تلك الفترة كانت تعالج الواقع بصورة من الصور، المهم أنها انقضت، وبدأت السنوات الثلاث وهي المرحلة الثانية، رتبت فيها مابيدي من أوراق، تغير بعض ماكنت أراه من الثوابت، حين أمسكت بها وجدتها هشة فكان لابد من تغييرها، الصداقة، التضحية، العلاقات الاجتماعية، الأسرة، كل هذه الكلمات بدأت تأخذ أبعاداً أعمق من قبل، لقد شعرت بأنني لم أعرف معاني هذه الكلمات إلا في هذه المرحلة.

الصح والخطأ في حياتنا أمر نسبي، يحكمها عدة مؤثرات، الأوضاع الاجتماعية والمادية تغير نظرتنا لكل ماحولنا، وهروبنا من أمراض الحضارة إلى ترياق الماضي لم يكن علاجاً بقدر ماكان مسكناً، وبمجرد أن ينتهي مفعوله سيطفو الواقع ثانية حاملاً آلامه معه.

لازلت أحكم بروح الماضي، وهي روح مشبعة بالعاطفة، على الرغم من التغيرات التي طرأت خلال هذه السنوات إلا أنني لن أغير النصوص التي كتبت، نعم قد أشرح فكرة كانت مبهمة، ولكنني سأبقي على روحها، سأترك كل شيء كما كان تقريباً، فمالم يكن ضرورياً فلن أغيره.

وسأبقى أمام عقبة واحدة لم أتخذ بعد القرار في كيفية تخطيها، وهي بأي روح سأكتب؟ الروائي يضع شخصيات أبطاله من خلال واقع يعيشه، قد يرمز لهم لكي يبعد شبهة السيرة الذاتية، وقد لايهتم في أن يأخذ القارئ انطباعاً أن الرواية عبارة عن سيرة ذاتية، أما أنا فلا زلت أشعر بالتردد، فبلا شك لحياتي وجود ملموس في شخصيات الرواية، ولكن لايمكنني أن أقول أنها سيرة ذاتية، وهي لاتخجلني لو أُخذ هذا الانطباع عنها، أو لو قال البعض أنني ألبستها الثوب الذي أريد. هناك بعض المواقف العجيبة في حياتي، ولأنها عجيبة فأنا أعتقد أنه لن يصدقها أحد، هذه المواقف إذا ظهرت في الرواية فسيكون القارئ متردداً في قبولها.

ذات مرة استدعيت للتحقيق بسبب قضية ما، (لاأحبذ الإشارة إلى مسألة التحقيق هذه)، قال لي المحقق: لاتنتظر منا أن نصدق ماتقوله، الأمر شبه مستحيل، وبالرغم من هذه الاستحالة التي عجز عن تصديقها إلا أنها حقائق سرعان ماظهرت فصدقوها. وأنا لاألومهم لو أنهم رفضوا تصديقي، فما كان يحدث شيء لايمكن نسبته إلى الصدفة أو التوافق. الأمر أشبه مايكون برجل يتحرك من أفريقيا قاصداً روسيا ليتزوج هناك من فتاة رأها في المنام، وفي الوقت نفسه تتحرك فتاة روسية قاصدة إفريقيا لأن قلبها يحدثها أن زوجها يقيم في أفريقيا.

ليس في الأمر نبوءة، ولكنه الإحساس بالحدث الذي يفرض بعض الخيارات التي تبدو شاذة في وقتها، وأحياناً لايكون الإحساس هو الذي يملي علينا الاختيار ولكن الأمور تجري بهذا الشكل، هكذا ببساطة، تريد أن تسافر فلا تجد مقعداً شاغراً وبعد ساعة تسمع عن حادثة في القطار الذي كنت ستسافر فيه وقلبت الدنيا لأجل السفر وقد تحطم ومات بعض ركابه، لماذا لم تكن معهم؟ لقد قمت بكل مايمكن أن تقوم به لكي تكون معهم، ولكنك لم تجد مقعداً.

ولكنني لا اكتب لكي أزين صورتي في نظرها، أنا مقتنع أنني بذلت جهدي، لقد عدت لأوراقي فدرستها بعناية، حددت أخطائي، أعدت صياغة كل حياتي، غيرت مايمكن تغيره، مدينتي، مسكني، وحتى طريقتي في الضحك والكلام، أهذا اعتراف أنها سيرة ذاتية؟ لا أدري ربما تكون كذلك ولكنها ممتعة، في أوراقي القديمة أيضاً وجدت عبارة تتحدث عن التجارب، تشير إلى الإنسان عبارة عن مزيج من التجارب، كاللوحة التي يرسمها فنان متمكن، تأخذ شكلاً أوضح كلما وضع عليها لمسة بفرشاته، وهكذا التجارب تعيد بناء الشخصية وتصقلها.

الآن لا فرشاة ولا رسام، فمرارة التجربة أكثر حرقة من ضربة فرشاة على قماش، ليس هذا انتقاصاً من الفن، فأنا فنان بصورة من الصور، ولكن ألم التغيير، والمجاهدة والمراغمة، لاتشبه أبداً الجلوس أمام منظر طبيعي لرسمه. عناء رفع الرأس للنظر من زاوية اللوحة، أو الحديث مع إنسان أرسم خطوط وجهه لايتساوى مع عناء الانتقال في الشمس الحارة في الصيف من أجل الالتحاق بحافلة ستغادر إلى منطقة نائية من أجل تنفيذ مشروع صغير. لايشبه الظمأ الذي تشعر به وأنت تحفر في الأرض وتضرب صخرة تسد الطريق عليك حتى يتمزق كفك، هذه هي التجارب التي تشكل الحياة. ومع كل تجربة يضاف خطاً آخر في لوحة العمر، خشونة في كف، أو تجعيدة في وجه، أو ظلال سوداء تحت العين، أو دخولك في نوم عميق بمجرد أن تضع رأسك على الوسادة.

الصورة:
(بعدسة: أسيل الغنام).. .. (من اختيار: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

تعليقين على “الأدوات”

في أوراقي القديمة أيضاً وجدت عبارة تتحدث عن التجارب، تشير إلى الإنسان عبارة عن مزيج من التجارب، كاللوحة التي يرسمها فنان متمكن، تأخذ شكلاً أوضح كلما وضع عليها لمسة بفرشاته، وهكذا التجارب تعيد بناء الشخصية وتصقلها.

((( احيانا كل ماهو قديم يكون وكأنه اشارة لنا لما هو ات ولكننا لاننتبه اليه الابعدما نجد اثره مستقبلا))

احرف في قمة الروعه الله يعطيك العافيه

التجارب التي تشكل الحياة ..
ومع كل تجربة يضاف خطاً آخر في لوحة العمر ..

حروف عميقة .. أشعر أني لو تأملت تجاربي ..
لو نظرت من خلف مقلتي لأعمالي وأحوالي
سأبكي كثيراً 🙁

ساعدني يارب ..

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.