التصنيفات
طائر المئذنة

طائر المئذنة

 

 

 

تتعلق الأرواح بالطيور والأحجار..

ولكن متى؟؟

إذا ارتبطت بقلب ونبض..

في طيور السماء حب ووفاء..

وفي أحجار الأرض أنس وعطاء..

 

(1)

 

يوم الأحد.. الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. ترى هل ستصلك رسالتي هذه، وإذا وصلت فهل سترد.. أشتاق لك كثيراً في غربتي.. أنت معي في كل لحظة.. وكل شيء أراه يذكرني بك.

أقيم في الدور الرابع في شقة صغيرة.. اطمئن، لا تخف على دراستي فالأمور تسير بشكل جيد.. تطل غرفتي على نهر كبير.. وفي الضفة الأخرى من النهر مسجد المدينة بمئذنته السامقة.. تقابل المئذنة نافذة غرفتي.. وفي الليل أنسج مع المئذنة الخيالات وأضع الصور.

حارس المسجد العم ناصر رجل كبير، في الخمسينيات.. لازال متمتعاً بقوة ولكنك تشعر حين تراه بقسوة الحياة التي عاشها.. أشعر أنه لا يستطيع الالتفات إلى المئذنة، ربما تحوي ذاكرته قصصاً ومواقفَ.. لا عليك يا أبي لقد عزمت على الجلوس معه والتعرف إليه أكثر وسماع قصة المئذنة منه.. التاريخ يا أبي يقول إن الإسلام انتشر هنا، إن المساجد كانت تمتلئ بالمصلين.. ولكن لماذا تتغير الأرض بهذه الصورة.. أطلت عليك يا أبي سامحني.. أنتظر ردك.

 

*      *      *

 

يوم الاثنين: الساعة الثانية عشر ليلاً.

اليوم خرجت من غرفتي.. وقررت التوجه للمسجد.. لم أزره كثيراً، كان صمته مهيباً.. يحيط به سور حجري كبير قديم.. لم تؤثر الأيام على السور، ولكن لونه تحول إلى الأخضر المسود بسبب ما نبت عليه من طحالب.. السور قوي، كأنه مصمم لمواجهة الحرب.. وفي الداخل ساحة خضراء كبيرة.. لم يعترض طريقي أحد.. فواصلت مسيري متلفتا.. كان المكان مرتفعاً وبدت لي جبال في الأفق، تسلقت السور لأرى المدينة، فرأيت ذاك النهر،كان كل شيء هادئ.. ونسمات الهواء تداعب وجهي.. نظرت خلفي المسجد يبدو شامخاً.. والمئذنة تقف في صمود.. بدت لي آثار دمار لم أتبينها من قبل.. اقتربت من المسجد.. فرأيت حوض ماء وسط الساحة الخضراء.. وحول الحوض صمم بناء دائري يحيط بالماء.. ومن حوله صف دائري من الكراسي بدا أنه لم يستخدم منذ فترة طويلة.. حاولت تخيل الصورة قبل أن يهجره الناس.. ورأيت الرجال يجلسون على هذه الكراسي ويتوضئون هنا.. وأصوات الأطفال وهم في كتاب المسجد يتعلمون القرآن.. فتحت عيني على الفراغ ثانية وواصلت مسيري متأملا.. لم أتوجه إلى المسجد بل التففت عليه.. ووصلت لباب المئذنة.. كان باباً خشبياً قديماً، لكنه جميل.. تحسسته بيدي كان ضعيفاً.. يمكن أن أفتحه لو اتكأت عليه بقوة.. خطر على بالي أن أصعد المئذنة لأرى المدينة من فوق.. وفعلاً دفعت الباب فأحدث صريراً أزعج السكون.. ووجدت نفسي داخل مئذنة مهجورة.

 

(2)

 

كانت المئذنة من الداخل مظلمة.. باردة.. وبدا لي أنها لم تستخدم منذ فترة طويلة.. كان الغبار يملأ الأرض.. والسلم الحلزوني الملتف يعانق الفضاء المظلم.. شعرت بقشعريرة تملأ نفسي.. لا أدري يا أبي أكان خوفاً أم وحشة أم هيبة للمكان.. حاولت أن أبصر نهاية السلم فلم أستطع لكن استرعى انتباهي وجود فتحات تبعث بعض النور.

ابتسمت لنفسي.. إذاً هاهنا بعض الضوء.. يمكنني أن أتسلق لأرى ماذا في الأعلى.. بدأت الصعود.. كان الطريق متعباً وبدا لي أنني سأصل إلى السماء.. عليّ الحذر فالدرج يبدو مهترئاً في بعض الأماكن.. كما أنني أجهل طبيعة المكان.. كنت أفكر هل يمكن أن يوجد أحياء في هذه المئذنة.. فكرت في الثعابين ربما وجدت بعضها أن المكان مناسباً فقررت الاستقرار فيه.. لم أفكر بالنظر إلى الأسفل فقط كنت أتخيل الصورة.. فراغ أسود عميق ولذلك واصلت صعودي إلى الأعلى.. كلما مررت بنافذة نظرت من خلالها لأرى المدينة والقرى القريبة منها.. كان المنظر يختلف كلما صعدت أكثر. أحسست بالسعادة.. بدأ خوفي يتلاشى.. وصدى خطواتي يبعث في نفسي نوعاً من الأنس.

وأخيراً وصلت أعلاها.. كانت المدينة تبدو صغيرة والجبل في الخلف قد غطى جزءاً منها.. كما بدا لي النهر كبيراً وقوياً.. وهناك رأيت غرفتي.. ابتسمت وأخذت أستنشق الهواء.. كم تبدو دنيانا صغيرة يا أبي.. ولكنها قاسية مؤلمة على صغرها.. فكرت فيك وفي أمي.. فكرت في إخوتي.. فكرت في نفسي وفي غربتي.. ومع زحف الضباب على المدينة زحفت الذكريات كالسيل تهاجمني.

أخذني الوقت وأنا في موقفي فلم أنتبه لنفسي.. اقترب وقت صلاة المغرب وعلي النزول بسرعة قبل أن تظلم الدنيا.. لمحت العم ناصر يدخل إلى فناء المسجد ومعه رجل آخر.. استدرت بسرعة لأنزل قبل أن يراني.. وفي الطريق لمحت منظراً أذهلني.. عش طائر وبداخله فرخ صغير.. يبدو أن أبويه قد هجرا العش لسبب من الأسباب فلا شيء يفسِّر، تأخرهما عنه.. بدا الصغير جائعا.. التفت حولي فلم أجد ما أطعمه به، ثم خطر على بالي أمر لا أدري يا أبي أصائبا كان أم لا.. رفعت العش بهدوء،وأخذته معي.. وبدأت في النزول السريع.

كنت أفكر طوال الطريق، ما الذي أخر أبويه عنه.. وهل قسا قلباهما فتركاه في هذه المئذنة وحيداً.. قطعت الطريق بسرعة.. أصابني الإرهاق وأخيراً وصلت إلى الأرض.

كان العم ناصر جالساً مع بعض الرجال الكبار في ساحة المسجد.. خرجت من المئذنة دون أن يلمحني أحد منهم.. ولكن لا أستطيع عبور الساحة بمثل هذه البساطة.. فقررت العبور بهدوء.

لمحني العم ناصر..

–        هيه أنت يا فتى، تعال هنا؟

–        اقتربت منهم بهدوء.

–        أووه هذا أنت يا بني.. ما الذي كنت تفعله في الخلف؟

–        كنت أشاهد الساحات وأرقب المدينة.

–        حانت منه التفاته إلى الطائر.. وما هذا الشيء في يدك؟

–        طائر صغير وجدته وحيداً.

–        أرني إياه..

–        مددته إليه.

–        هذا طائر صغير.. لا يمكن  أن يخلو العش من أحد الوالدين.. إلا إذا ……

–        ماذا يا عم؟

–        إلا إذا ماتا.. الأطفال هنا يعبثون بالطيور.. أحسنت صنعاً بأخذه. ولكن هل تستطيع الاعتناء به؟

–        سأحاول.. وابتسمت.

–        حسنا.. قم بطحن الحب له فهو لا زال صغيراً.. وهيا بنا حان وقت المغرب.

صلينا المغرب.. وخرجت مسرعاً إلى غرفتي لأطعم صغيري.. مررت بمحل صغير في الحي أحب أن أشتري منه أغراضي.. طلبت منهم كيساً صغيراً من الحبوب وركضت باتجاه البيت.

 

(3)

 

يوم الجمعة: الساعة الواحدة ليلاً.

أتدري يا أبي.. أشتاق لك دائماً وأتذكرك كلما رأيت الرجال في المسجد مسجدنا قديم تشعر بالرهبة والسكينة يملآن نفسك بمجرد أن تفتح بابه.. لو رفعت رأسك إلى السقف سترى أنه يحتاج إلى ترميم. كما أن الإضاءة فيه ضعيفة.. تفوح منه رائحة طيبة ولو لم تضع فيه عطراً.. فرش بسجاد قديم، ولكنه فاخر.. وفيه عدة أدراج خصصت لوضع المصاحف.. وقد علا الغبار أركانه.. ترى في الصف الأول مجموعة سجاد صغير، هذا السجاد خاص بالعم ناصر وببعض الرجال الذين يحرصون على الجماعة.. وفي مؤخرته وضع إناء فخار فيه ماء تفوح منه رائحة البخور.

نسيت أن أقول لك أن صغيري بصحة جيدة.. وضعت عشه قريباً من سريري، في مكان أراه وأرى المئذنة من خلاله.. وقمت بطحن الحب له.. قررت أن أسميه وحيد.. لأنه من دون أصدقاء.. أتدري يا أبي أشعر أنني مثل طائري، وحيد في عالمي إلا من الذكريات.

أصحو كل يوم.. أرسل قبلة للمئذنة وأرتدي ملابسي.. وأتوجه إلى مدرستي.. أراك هنا في كل صفحة.. في كل سطر.. في قلبي اسمان.. الأسرة، والمبدأ.. وتحت كل منهما توقيعك.

 

يوم الثلاثاء: الساعة الحادية عشرة ليلاً.

تعود وحيد على يدي وبدأ تغريده يملأ البيت.. ضحكت اليوم عليه وهو يحاول أن يتعلم الطيران.. أجنحته لا زالت ضعيفة، ولكنه سيطير سريعاً.. أعجبني عزمه ومحاولاته المتكررة.. في كل مرة يقع كنت أرفعه ثانية.. فيعود للوقوع من جديد.. وفي المساء ينام بين ذراعي. أفكر فيه الآن، أشعر أنه يفهم كلامي .. ويأنس برؤيتي.. هو صغير في حجمه، ولكنه يملأ فراغاً كبيراً في قلبي.. أشتاق له وأسابق الوقت للعودة إلى غرفتي لأجلس معه.

أتدري يا أبي.. أشعر بالألم إذا فكرت فيك.. وما الفائدة أن أمضغ الذكريات دون أن أراك.. مرارة الأيام تؤلمني يا أبي.. لماذا يقسو الناس على بعضهم؟ لماذا تختفي كل حسنات الإنسان إذا أخطأ؟ ولماذا تختفي الكف الحنون التي تقبل العائد؟

آه يا أبي.. صور العشق التي ترتسم في نفوسنا تحيينا بالأمل.. وفي قصاصات الأوراق تتعانق الأرواح.. وفي عالمك أرحل.. وتحت ظلالك أستظل.. وفي تغريد وحيدي أرى طيفك يبسم لي.. يشجعني.. ويأخذ بيدي في عالم لم أعد أميز معالمه.

أتدري يا أبي.. أصبحت في كل يوم أقص ورقة من التقويم فرحا وأشعر أنني قصصت ورقة من غربتي،معها.. وأنتظر موعد الرحيل.

 

(4)

 

يوم الأحد: الساعة الثانية ليلاً.

كبر وحيد يا أبي.. وأصبح يطير بمهارة.. كما أضحى، يخرج من الغرفة ويعود إليها.. أتدري يا أبي.. أفقده كثيراً إذا عدت إلى الغرفة ولم يكن موجوداً فيها.. أتصدق رأيته يطير كثيراً باتجاه المئذنة، شعرت أن شيئاً ما يربطه بها.

ترى هل يشعر صغيري أنه فقد أبويه هناك؟

وهل يشعر أنها منزله الأول؟

أرقبه الآن بجوار المدفأة.. أغمض عينيه وغفا.. وتركني مع أوراقي … ومعك.

آه يا أبي.. أشتاق إليك.. ليتني كنت أستطيع التحليق لأزورك.. أبتسم لهذه الخواطر، وأعود من جديد إلى أوراقي وقلمي.

 

*      *      *

 

يوم السبت: الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. هل هي النهاية؟ لم يعد وحيد من عدة أيام.. ترى أين هو الآن؟

فتحت له النافذة كالعادة في كل صباح، ولما عدت لم يكن موجوداً.. ترى هل رحل؟

انتظرته طوال اليوم.. وحقيقة يا أبي … بكيت من أجله.. لا أدري لماذا رحل..

بل أظن أنني أعلم.. لقد رجع إلى عالمه.. كنت شيئاً عابراً في حياته يا أبي وها قد عاد إلى دنياه.. كل شيء عابر في هذه الحياة.. حتى من نحبهم يرحلون.. تمزق الأيام الشمل فنعود في ليالي العمر الباردة نحضن الذكريات.. في هذه الغرفة يا أبي موقد.. حتى أخشابه تحترق.. كل شيء ليس سوى محطة سرعان ما تنتهي.. ومع آخر محطة تنتهي حياتنا.

 

*      *      *

 

يوم الأحد: الساعة الواحدة ليلاً.

أنا سعيد نوعاً ما يا أبي.. أتدري لماذا؟

قررت هذا الصباح البحث عن وحيدي.. لم أكن أعرف مكاناً يمكن أن أجده فيه غير المئذنة.. ومع إشراقة الشمس توجهت إليها.. لم أبالِ ببرودة الجو  في هذه الساعة ارتديت معطفي وانطلقت.. لم يكن هناك أي إنسان في الطريق.. تخيلت أن كل شيء قد تجمد.. صوت الأشجار كان هو الشيء الوحيد الذي لم يصبه الخرس.

وصلت إلى ساحة المسجد.. توجهت في ثبات نحو المئذنة.. كنت قد عرفت الطريق جيداً هذه المرة.. لم يتغير شيء منذ زيارتي لها.. كان قد مضى على الزيارة الأخيرة قرابة الثلاثة أشهر.. صعدت السلم الحلزوني مسرعاً.. وهناك في الأعلى … وجدته يا أبي.

كان وحيد قد بنى عشاً جميلاً في الأعلى، وكانت معه أنثاه.. وقد حضنا بيضتين صغيرتين.. عرفني فلم يشعر بالانزعاج مني.. مسحت عليه برفق.. ونزلت مسرعاً.. توجهت لغرفتي أخذت كيس الحبوب ورجعت ثانية.. تركته لهم واستدرت ثانية.. إلى غرفتي.

هذه المرة كانت الحياة قد دبت في كل شيء.. وابتسم الكون كله.. إلا شخص واحد كان يسير مطأطئ الرأس، يخفي دمعة.. كان ذلك الشخص أنا يا أبي.

في فراشي الآن أسطر لك هذه الرسائل.. وسأحرقها حين أنتهي من كتابتها.. لكنني واثق أنها ستصلك، وأشعر أنك معي.. للأحياء أرواح تسري عنهم وتؤنسهم.. وفي أرواح الأموات وجدت الحياة.

في كل صباح سأعانق المئذنة.. وأستمع إلى تغريد وحيدي.. وحين يأتي المساء سأجتمع بك تماماً كما كنت أفعل قبل أن تموت.

(الصورة من تصميم: هنادي الصفيان)

التصنيفات
همسات

أبواب

نحن مثل باب يتعرض لطرقات قوية.. توشك أن تقتلع مفاصلنا.. فإما أن تكل اليد التي تضربنا فتتركنا.. أو يذود إنسان عن بابه.. أو نقتلع من جذورنا.. وفي كل الأحوال فالضرر سيصيبنا لا محالة.

والنتيجة متنوعة فأبواب محكمة سلمت من الطرق أو كانت أقوى منه، وبقي عليها أثاره..

أو أبواب محطمة لا تحجب الشمس ولا الريح ولا الدخيل.. ولكنها تمنع الآفات الكبيرة..

أو أبواب لم يبق لها من دور تقوم به، إلا منظر جمالي يسقط عند أدنى هبة ريح أو حركة..

كل الأبواب تتعرض للطرق.. ويمكن ترميمها.. لذلك تحتاج إلى الرقابة والصيانة.. حتى تعود من جديد..

(الصورة بعدسة: فيصل الزير)