التصنيفات
قبور الياسمين

بين عقل وقلب

 

قبل عشر سنوات وضعت مسودات “قبور الياسمين”، كانت أوضاع العالم قد بدأت تتغير لتصبح كلمة “الجهاد” ذات مدلول خاص يسم صاحبه بنعوت لاتخلوا من القسوة، وقد يتطور الأمر ليصل إلى ملاحقة واعتقال في بعض الدول، لاقت “قبور الياسمين” استحسان من قرأها، ولازلت أذكر بعض أسرتي وهم يخفون دمعة تصر على الخروج من أعينهم حين يقرؤونها، أو حين يرجونني ألا أنشرها خوفاً علىّ مما قد تجره من ويلات.

في “قبور الياسمين” أقف موقفاً صعباً لا أحسد عليه. بين واقع تشابهت فيه المسميات وتغير فيه المحتوى، وقفت مرات عديدة أمام مسوداتي لأعدلها وأنشرها، فأتردد، لاأخفيك أيها القارئ الكريم أنني كنت أتردد خوفاً في كثير من الأوقات، فلاأحتمل وأنا الإنسان الذي يشعر بالمسئولية أن أحمل وزر خطأ قام به غيري، لأنني أشبهه في جزئية من حياته. تقف أسرتي أمامي، فأشفق عليهم أن يظلوا بلا عائل، ثم أتذكر أن الله هو الرزاق فألقي الخوف وراء ظهري، ثم أنسى وتغلب علي إنسانيتي وأتردد، ولا أزال بين مد وجزر، وتحرير وتعديل، وعودة إلى الأصول وإتلاف ثم عودة، يمزقني ألمي وأنا أرى التلاعب بالألفاظ، والكذب على الأمة، والهزء بمفاهيمها المقدسة، بين صمت قاتل، ورد ضعيف، وهمس خافت لايصل ليظهر الحقيقة.

“الجهاد” طريق شرعي له ضوابطه، وبطل “قبور الياسمين” كان يسير ضمن الضوابط، فتراه يغادر مكانه إذا شعر بخطأ من حوله وانحراف منهجهم، وتراه يمسك سلاحه حين ترتفع الأسلحة لتنقلب على رفقاء الأمس، وتراه يبكي حين يرى حظ نفس يسيطر على قائد، ويهلك بسببه الأنصار.

حين بلغت الأربعين أو قاربتها شعرت بأنه لابد من عرض الرواية، ليرى الناس تجربة ناجحة من تجارب الحياة، ورحلة مميزة سار فيها البطل وحيداً يرافق حقيبة لاغير، حين أقول أنه بكى فقد حصل، ولكنه بكاء عز لابكاء ذل، وحين ينبض قلبه فليس ذلك نبض العاطفة الخالي من التعقل، وحين يرمي عدوه فليس معنى ذلك أن قلبه قد من الصخر، لقد قاتل، وقتل إخوانه من حوله، وأسر قاتلهم، وسجنه، ليسلم القاتل، وليناديه في اليوم التالي بـ”أخي”، ويقتسم معه لقمة هي كل ماجادت به الحرب عليهم.

لا أعلم كم قبر شاهدت، ولا كم أرضٍ زرت لأجل تدوين صفحاتها، ولكنني أعلم أن قراءتي للأحدث، وروايتها وإعادة صياغتها لم تخرج عن منهج السيرة، لم أضع كل شي هنا لعجزي عن الصياغة، ولكن مشاهد الساحات يمكن أن تفي بها قراءة للقادسية، ومشاهد الرجال يمكن أن تراها في “أبو بصير”، ” وأبو ذر”، “وأبو عبيدة”، “وخالد”، “وسعد”، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

“قبور الياسمين” وثيقة تدل على صفاء نفس ونقاء سيرة، ليست سيرتي الذاتية، ولكنها سيرة إنسان ما، في زمن ما، في مكان ما، قد يكون حياً، وقد يكون رحل مع الآخرين ممن سبقوه، أضعها بين يدي القارئ محاولاً أن أحيي في نفسه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وموقعاً بها وثيقة قد تكون رواية إدانتي.

أنا لا أدان لأنني خطأ، ففي مثل هذه الحالات لا يشترط أن تكون خطأ، يكفي أن تكون مخالفاً لما يقال، وبغض النظر أنت صواب أم من حولك، وبغض النظر عن مدى الصواب في كلامك، فستجد نفسك مداناً. ومن يحبك ويثق فيك سيهز رأسه أسفاً ليقول: (هو هكذا دائماً عنيد ومتفرد).

حين قامت زوجتي بتصميم الفواصل كانت تقول لي هذه رسالة مودع، حتى هي كانت تشعر بالخوف من أجلي، تريد أن أنشرها، وتخاف منها، الموقف صعب جداً، والخوف يمتلك القلم. لاينقص الأمة أبطال يحمونها، وجيل يمشي على أثر سلفها، و”قبور الياسمين” تروي قصة من قصصهم، تصاغ بقلم كاتب، وتنبض فيها روح التأريخ، لتصل إلى قلوب متعطشة للخير في الأمة، فتروي ظمأ هجير واقع مؤلم.

لأمتي.. وقد شغفت بها حباً، ولتاريخها وقد أبكاني ومزقني، وللأنصار وقد ملكوا قلبي وعقلي.. أهدي “قبور الياسمين”.

(الصورة بعدسة: ديبو)