التصنيفات
قبور الياسمين

الانطلاق

  

تنطبع العديد من الصور في ذاكرتي بوضوح، طفولتي البسيطة، الجري في الجبال خلف الطيور لصيدها، وهجمات عصابات الحي على الجيران، والتخطيط البريء لمعارك الشارع الطفولية، صف من المحلات ولدت لأراه، ولأراقب الشيب يغزو العاملين به، وكرسي الحلاق الذي يتحكم في رؤوسنا دون أن نتمكن من معارضته خوفاً من الموس الحاد في يده.

ربما كتب علي أن أعيش منذ الطفولة حياة واضحة المعالم، بسيطة المعطيات، حتى الحي الذي أسكن فيه ليس سوى ضاحية أقرب للقرية في أطراف مدينة، طالها العمران لتصبح وسط المدينة حين كبرنا، ولتتغير كما تغير كل شي.

أخي.. أسمع صوت قلبي وهو ينبض، كأنه يقول لي انتبه لا تكتب، صوت المطر في الخارج يصلني ضعيفاً، ربما لانشغالي بك، أو لانشغالي بالذكريات. الليل ووحشته وأصوات الذئاب بعيدة في الغابات.. وأنا وشمعتي ننتظر مجيئك. للمطر وجود كبير في حياتي، أخاديد كنت أراقبها في طفولتي وقد تكونت عقب مطر الفجر، أمشي أتلمس طريقي في صلاة الفجر وأنا طفل، والهواء البارد يلامس وجهي لتدمع عيني ولتحمر أرنبة أنفي.

على الضوء الأصفر الباهت المتراقص أتذكرك، تأخرت كثيراً، انتظرتك اليوم كما هي عادتي في كل يوم، ولما جاء الليل بقيت ككل ليلة أراقب الشمعة وانتظرك.

يقولون أن الإنسان إذا دنا أجله تمر عليه الذكريات كومضات، أنا أتذكر أموراً كثيرة هذه الليلة فهل سأموت؟

غريبة هي كلمة الموت، انتظرتها كثيراً وبحثت عنها، لكنني لم أصادفها. أشعر بالبرد بالرغم من النار الملتهبة، أتدفأ، أنظر من النافذة المغلقة إلى الطريق عليّ أراك، بدأ الثلج بالتساقط.. إذاً هذا هو الشتاء الطويل، وأنا وحيد.

الوحدة ليست شيئاً جديداً في حياتي، ولكنها الآن مختلفة، هذه المرة أشعر بمرارتها تقطع قلبي، كنت وحيداً دائماً، ولكن الأمر بختلف الآن.

صحيح أنني اخترت الوحدة بملء إرادتي، ولكن لا أدري لماذا فعلت ذلك، في البداية كنت أتوقع أنني لن أعيش طويلاً، توقعت الموت سهلاً، وأنني سأحصل عليه بمجرد وصولي، ولكنني رأيته في كل شي عدا في نفسي.

حتى الصخور التي تتشظا عقب انفجار تموت، والأشجار تقتلع من جذورها بسبب قصف أو غارة جوية، أما الرجال فمنهم من رأيت بقاياهم تعلن عن رحيلهم عن عالمنا، ومنهم من لم يبق منه شئ.

أعود لطاولتي المُهْترِئة، أراقب الشمعة، وأقرر الكتابة، أخرجت من حقيبتي ما بقي من أوراقي، أخاطب هذه الحقيبة وكأنها تعقل ما أقول، كيف لا وهي الوحيدة التي رافقتني في سفري، صورة جديدة من صور العشق، تنام في حضني، وتحفظ سري، وتسير بدربي.
ماذا سأكتب لك هذه الليلة؟ فكرت كثيراً أن أحدثك عن أسفاري، أقرر ثم أتراجع، في كل مرة أنظر إلى الصفحات البيضاء بخطوطها الباهتة أتذكر الوجوه المبتسمة، وأسمع الأصوات في أعماقي وكأنني عدت إلى هناك. ترى هل يهمك أن تقرأ؟ قلت لي ذات يوم أنك تحب أن تقرأ أي شي أكتبه، هل لازلت تحب ذلك بعد هذه السنين؟ أمسح دمعة وجدت طريقها دون علمي، أكابر الدمع منذ أن تركتك، حين افترقنا كنت تبكي، وكنت ابتسم، ليس لأنني قوي، ولكن لأنك تراني قدوة في حين كنت أكتسب قوتي منك. هذه المرة سأكتب، وسواء وصلتك أوراقي أم لا فيكفي أن أعرف أنك كنت مهتماً بها. ويكفي أن أروي قصة أسفاري.

اليوم الخميس، جهزت حقيبتي للسفر وحيداً لدولة مجاورة طلباً للحصول على تأشيرة، كان كل شي حولي غريباً لم أتعود السفر إلى الخارج، ولهذا تعجبت كثيراً مما رأيت. تعبت في البحث عن فندق مناسب، كل الفنادق توفر “جميع الخدمات”، هم علموني هذا المصطلح لكثرة ترددي في البحث، “كل الخدمات” يقولونها ويبتسمون بطريقة تحمل الكثير من المعاني، الخدمات التي أحتاجها وهي قليلة والخدمات الأخرى وهي كثيرة جداً، لهذا تعبت كثيراً، فلم أكن بالنزيل المربح لهم، لذلك لم يهتم أحد بإيوائي.

أخيراً وجدت فندقاً مناسباً، أو هذا على الأقل ما ظهر لي، الاسم عربي مسلم، له إيحاء خاص بالتدين، “الصحوة” هذه الكلمة أغرتني بالدخول، شعرت بانتمائي لها، وركضت عبر الطريق المزدحم لأدخل الفندق، وأطلب المبيت، لم أُشر لأي شيء آخر، حتى الطعام لم أفكر فيه، كنت أفكر في الطريقة التي أصل بها إلى مُبتغاي، كنت أريد الحصول على التأشيرة بأي طريقة كانت، وأويت إلى غرفتي متعباً، استلقيت على السرير وبدأت في التفكير، ماذا سأفعل غداً؟

قمت وتوضأت ثم صليت، ذهبت إلى فراشي، تمددت ولم أشعر بشيء من شدة التعب.

أحسست بحركة فتح الباب، يبدو أنني نسيت إغلاقه، أو أن عامل النظافة في الفندق فتحه،  كيف ينظف الغرف والناس فيها، تعجبت، التفت بهدوء ورأيتها تبتسم لي عند طرف السرير. قفزت من مكاني، صرخت في وجهها، خافت أو خفت لا أدري، كنت خائفاً حقاً، تعجَبت من موقفي، لم تتعود هذا الأمر، خرجت مسرعة من الغرفة محاولة أن تنهي الموقف، وأسرعت خلفها إلى الباب، أغلقته وأغلقت معه انطباعات الموقف، وعدت أفكر في الغد.

لم أستطع النوم، جهزت حبيبتي الصغيرة وذهب إلى الاستقبال في الفندق، سألت عن الحساب، وخرجت وفي ذهني تدور أحداث الغد المتوقعة.

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: بين عقل وقلب>  يتبع > الحلقة التالية: في السفارة)

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)