التصنيفات
تربويات

معايير الأربعين

أنا رجل تجاوزت الأربعين، قرأت كثيراً، وسافرت كثيراً، وشاهدت كثيراً، وكتبت كثيراً.. ومن خلال مزيج الكثرة خرجت بقناعات أورثت قلبي السكينة، ومنها أن الناس لن يكونون على شاكلة واحدة فلكل أمة توجه وطريق، فاستوعبت الخلاف واقتنعت أن لكل إنسان حقه في الكثير من الأمور، لم أهتم بالخلاف كثيراً فارتحت من تعب الردود.

حين أقرأ كتاباً جديداً، أو أستمع لأطروحة أو اسمع عن فكرة فإن لي مجموعة من المعايير التي لابد وأن تمر الفكرة بها، تتساوى الكلمة والموقف كذلك في المعايير، فما وافق المعايير قبلته ونفسي مطمئنة، وماخالفها رددته نائياً عنه مؤمناً أنه لايلائمني، وماأشكل علي وهو مهم بالنسبة لي رجعت للمختصين لتوضيحه وعرضه ثانية على المعايير، وإن كان غير ذلك بقي في الذهن لحين الحاجة إليه، ويعود العرض مرة أخرى للتأكد من مدى التطابق والموافقة. ومن معاييري:

– العقيدة.. ليس فقط اثبات وجود الله، بل أمور أخرى تتعدى ذلك، كاثبات ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والسلامة من البدعة، والموافقة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وأي شي يخص الإيمان كالقدر ومايرتبط به من مسائل، ولم أتعب كثيراً في العقيدة فقد أسست على النص، واهتم بالدليل، لست بعالم ولكن أرجع لعلماء أثق في دينهم وأمانتهم وفضلهم وعلى رأسهم الشيخ ابن باز رحمه الله.

– الآداب.. فسلوكيات المجتمع وعرفه لها مكانتها في التشريع، وتؤثر بلا شك على اختيار ممارسة أو تعبير، وكمنهجية اجتهدت في تجنب الفحش أو الدعوة إليه، وحرصت ألا أكون سبباً لفساد الناس، فرق بين معصية نقوم بها، وبين معصية نؤصل لها وندعوا الناس إليها، الحياء زين كله، في الرجل والمرأة، وهو في المرأة آكد، لأنه يفترض أن تكون أكثر حشمة وعفة، فرق بين فتاة تهتم بطهرها وعفتها، وبين أخرى تجاهر بتقصيرها وتروي مغامراتها، وأحببت العفاف وغالبت نفسي عن المعاصي وتعبت وساعدني من حولي ممن يحملون لي محبة صادقة، وأحببت رؤية الخير في أطفالي فحرصت على نقل المبادئ لهم من خلال أمٍ صالحةٍ مصلحةٍ.

– الذائقة النقدية.. ولي ذائقتي في النقد، في اللغة والفن وعلوم الشعور، يمكن أن تكتب ماتريد، ولكنني سأتوقف لأقول لك هذا شعر وهذا نثر، هذا حسن وهذا رديئ، وهذا رسام مبدع وهذا بعيد عن الإبداع، وهذه القصيدة عميقة المعاني، وتلك متكلفة خاوية لاتحمل معنىً ولا هدفاً سوى وسوسات كاتب، وتلك اللوحة حملت قصة واضحة في ألوانها وخطوطها، وهذه لوحة لافرق بين أن توضع بهذا الشكل أو بالمقلوب.

ولست الوحيد الذي يحكم في المعايير، فلكل معيار أهله ممن يعرفون ضوابطه وحدوده، ويؤصلون مسائله وبحوثه، ويحكمون على الصحيح منه وعلى الفاسد، فإن عجزت عن الحكم بنفسي لجأت وقلبي مطمئن إلى الثقات في كل فن فاستشرتهم، وناقشتهم لو أشكل علي شي من كلامهم أو كان غامضاً أو افتقر إلى دليل، حتى إذا بدت لي الجادة توجهت بيقين وثبات وعملت بما اتضح أنه الحق حتى لو خالف نفسي، وانتبهت لمداخل الشيطان في ذلك فأغفلت العقل أمام النص، تسليماً لأمر الله، ووضعت العقل حين أمرني النص بصيرة وتأملاً، فمازلت أتقلب بين تأمل ويقين، ورضاً واحتساباً، لاهياً عن الآخرين، مؤصلاً لمنهجية الصواب، عاملاً بما آمل أن يكون نجاة لي حين أبحث عن طرق النجاة.

قد نتعب في التوصل للمنهجية الصحيحة ولكن السبب الأكبر لذلك غياب العلم الصحيح المبنى على الدليل الصحيح، أو تفسير الدليل الغير الصريح بأصحاب مناهج شرقت وغربت فأبعدت عن الجادة وأضاعت السالكين، والآن عزيزي القارئ، عد إلى المعايير واعرضها على نفسك، فإن قبلتها قبلت خيراً وشريعة، وإن رددتها فما أنا عليكم بحفيظ.

 

(الصورة بعدسة: ديبو)