التصنيفات
رؤى

الورقة الصفراء

“أنها صورة للبشر.. ربما كنت أنت هذه الورقة.. ربما أباً في أسرة.. ربماً أما بين أسرتها.. ولكن من المؤلم أن يواجه الواحد ثمناً للتضحية باتهام وانتقاص وابتعاد.. إنها جراح النفس التي لا تبرأ.. أن تبذل وتبذل، تم تسقط متهماً”

كانت البداية كسؤال.. هل الورقة الصفراء جزء ساقط لا فائدة منه؟ أم أنها صورة جديدة من صور التميز والتضحية؟

– تعيش الورقة كغيرها من الأوراق ضمن مجموعة متكاملة.. تتقاسم بينها الأدوار.. منها المعلم، والطالب، والعامل، والتاجر، في صورة بهية ضمن شجرة واحدة.. تعيش مع مجموعة من الأشجار في غابة واحدة أو بستان واحد.. لانشعر بهذه الحياة.. ولكننا نراها ونرى أثرها.. والموفق منا من تأمل قليلاً ليرى عجيب صنع.

• نرى أثرها من خلال أكسجين نستنشقه.

• ومن خلال ثمار نأكلها.

• ومن خلال مناظر نتمتع بها.

• ومن خلال ظلال نستظل بها.

– ثم تسقط هذه الورقة.. تسقط كدمعة من عين كهل ابتعد عن أسرته وعاش وحيداً بلا كف تؤنسه في شيخوخته.. أو كطفل تيتم وافتقد صدر الأب القوي أو صدر الأم الحنون.. فهل كان سقوطها فجأة بلا مقدمات؟.. أم أن هناك أموراً كثرة تمت في الخفاء وأفشاها حفيف الأوراق وهمس الرياح.

– قالت الريح أن الشجرة كان لابد أن تتخلص من فساد فيها.. يتم ذلك من خلال تفريغ المكونات الفاسدة في ورقة من أوراقها في عملية حيوية تعلمناها في المدارس ولم نفكر فيها من زاوية تربوية.. وكان لابد من أعضاء منتخبون يتحملون هذه التضحية فيتجرعون السموم ليعيش البقية.. ليس الشجرة فقط.. بل الشجرة والكائنات القريبة منها.. ثم بدأ توجيه كل الشر لها.. وسقطت في نهاية الأمر مضحية بحياتها.

– أنها صورة للبشر.. ربما كنت أنت هذه الورقة.. ربما أباً في أسرة.. ربماً أما بين أسرتها.. ولكن من المؤلم أن يواجه الواحد ثمناً للتضحية باتهام وانتقاص وابتعاد.. إنها جراح النفس التي لا تبرأ.. أن تبذل وتبذل، تم تسقط متهماً بأنك كنت مليئاً بالفساد.. حاملاً للشرور.

إن من اتهم هو ذاته الذي أفرغ السموم.. لم تقدر التضحية، بل أصبحت تهمة.. ومادرى أن السنن مستمرة.. وستحتاج الشجرة أن تضحي بورقة أخرى كي تعيش.. ولو تعانقت دمعة من هنا، ودمعة من هنا لماتت الورقة سعيدة، ولكانت دمعتها فرحة بدل الانكسار.. ولوجدت في حزن من حولها نوعاً من الأنس.

– إن النفوس التي تضحي عظيمة.. فحتى في سقوطها لم تشأ أن تكون كغيرها.. فهاهي الآن فراشاً في عش طائر.. تحتضن بيضه وتهب لها الدفء.. وحتى يكتمل العش لابد للطائر أن يأخذ من هنا جزء ومن هنا جزء.. فيمزق ماتبقى منها.. وأخيراً ترحل الطيور.. وتبقى الورقة الصفراء سوداء.. وتبقى الدنيا كلها نابضة بتضحيتها.. مشرقة ببذلها.

• الشجرة في اخضرارها.. وظلالها.. وثمارها..

• والطيور في تغريدها.. وتكاثرها.. وتحليقها..

• والبشر في الحياة على نتاج هذا وذاك.

– سقطت أم.. باعت عرضها.. شعرها.. أسنانها.. لتعيش ابنتها، حين تخلى عنها الناس.. وسقط رجل.. وبقى منبوذاً وقد أطعم بسقطته أسرة.. وأحيا أنفساً بعد أن عجز أن يجد كفاً تستأجره لتدفع له ثمن لقمة.

– إنها القسوة التي نواجهها في حياتنا.. وتبقى أرواحنا كورقة صفراء.. ضحت في صمت.. وسقطت في سعادة.. وأخفت دمعتها لكي لايشمت فيها بعيد.. أو يتألم لها قريب.. وبذلت بعد موتها.. فعاش رفاتها نبراساً.. وكانت دفئاً لقلوب باردة.. وغيثاً لأرض مجدبة.. ولن تنته التضحيات حتى لو انتهت حياتنا.

– ليس كل ساقط عديم.. وكم من ساقط بذل.. وكم من مقصر ضحى.. وستمر الأيام سريعةً حاملة لنماذج بذلٍ.. ولكن ستبقى أوراقنا الصفراء شواهد مميزة.. وعند الله تجتمع الخصوم.

(الصورة بعدسة: أسيل الغنام)