التصنيفات
رؤى

المدينة الصناعية

6646218209_6c685218af_o

في العقد الأخير من عمري ارتبطت بالمصانع بشكل كبير.. ومع أنني أحب حياة الريف إلا أن العمل داخل المدن الصناعية وبين الآلآت كان مريحاً لي بشكل أكبر من رفاهية المكاتب. ربما يعود السبب إلى أن التعامل مع الآلآت يعد أسهل مقارنة بالتعامل مع البشر.. وكلما اقتربنا من الإدارات العليا كلما زاد التعب في التعامل، واضطر الإنسان أن يلبس أقنعة وأردية تلائم المواقف التي يمثلها. ولكن المدينة الصناعية ببواباتها العملاقة، ومصانعها، ومداخنها، وطرقها الواسعة لا تبتعد كثيراً عن طبيعة النفس البشرية وصفاتها.

بوابة المدينة تمثل المدخل إلى النفوس.. وبالرغم من اتساعها فإن أوقاتاً تمر بالنفس تشعر فيه بقدرتها على احتواء البشر.. ثم تضيق هذه النفوس فتزدحم المواقف والذكريات والأشخاص.. وتختلط الصور وتمتزج الأصوات فلا تقبل منها شيئاَ ويكون تعطل في السير وتعطل في التواصل الاجتماعي بين الناس.

والحواجز الأرضية.. أو المطبات هي القوانين التي تسنها النفس للتعامل مع الأخرين.. فهناك خطوط لابد من التوقف عندها، وهناك خطوط تمنع التجاوز، ولوحات توجه السير، ولوحات تمنع المرور والدخول، وفي كل منعطف في النفس لوحة، وأمام كل وحدة إنتاج لوحة، وهذه هي النفوس التي تحيط نفسها بالعلامات لتضمن الاستقلال والحصانة. وما القوانين إلا الحياة التي تسن علينا شريعتها، فتحكمنا من خلالها.

الطرق الواسعة تضيق في النفوس.. وهي كذلك في المدن الصناعية.. ولكننا مع تعودنا على مشاكل طرق المدينة أصبحنا نعرف أفضل المسالك للوصول إلى أهدافنا دون أضرار.. أما النفوس فإن تغير اتساعها ينتج عن أهواء أصحابها، فلايمكن التعامل معها بوجه واحد، بل نضطر أن نتتبع رغبات الأشخاص علنا ننال في نفوسهم حظة، أو نجد طريقاً إلى قلوبهم.

أما المصانع العملاقة بمداخنها فليست سوى الأشخاص أنفسهم.. ففي كل نفس مدخلات ومخرجات.. معلومات وسلوك.. ولكن الفرق أن دخان المصانع وزيوتها أقل ضرراً من تنافس غير شريف، أو سلوك غير حميد، يدفعه الرغب والرهب، وتحوط به المصالح والأثرة. فيقع في خلد الإنسان أن التعامل مع المصانع بضجيجها أرق من التعامل مع البشر بعواطفهم الميتة.

إن ماتطلقه النفوس البشرية من الغازات المضرة بالسلوك والتربية والاسقرار النفسي أكثر بكثير مما تطلقه المصانع من دخان ومخلفات، كما وأن التعامل مع غازات المصانع وأضرارها أسهل بكثير من التعامل من الآثار السيئة التي تخلفه النفس الإنسانية في محيطها، بل وفي ابعد من ذلك المحيط.

ومع أن بعض المصانع البشرية تنتج، إلا أن بعض من لديه القدرة على الانتاج، ومعايير الإنتاج، لايسير بحسب الخطط الأفتراضية المرسومة.. فلا هو متقيد بمعايير الجودة في المنتج، من إحسان العمل، وبذل الوسع في الإنجاز، والمبادرة، والعمل بروح الفريق. ولا هو منتج بحسب طاقته الإنتاجية، وقد يخالف أصول الإنسانية فيحتكر في زمن الشح، ويبخل في زمن التضحية من أجل تحقيق العائد الشخصي دون العناية بالجو العام الذي يحوطه ويعيش فيه.

المصانع دلالة النهضة في الأمة، والبشر أيضاً لايقلون عن المصانع أهمية.. وكما نقوم بالصيانة للآلآت فإننا نحتاج إلى تقديم جدول دوري لتفقد الإنسان والعناية بالترسبات التربوية والفكرية التي تملأ عقله وقلبه وتسبب تأخر دورانه وإندماجه مع محيطه ومواكبة الواقع.

وكما للآلآت مواداً استهلاكية فكذلك الإنسان يحتاج إلى مصاريف تشغيلية.. فالابتسامة، والمعلومة، والخدمة، والهدية، والتواصل، والسعي في قضاء حوائج الناس، والكرم، وغير ذلك. كل هذه تمثل مفاتيحاً لاستخراج أفضل النتائج من الآخرين. وهي أيضاً تضمن سلامة المجتمع والعاملين فيه.

إن دخولي إلى المصنع في الصباح وأنا ممتلئ نوماً وخروجي منه آخر النهار باسماً متعباً مشتاقاً إلى أولادي.. أحب إلى من دخول مكتبي مبتسماً ورائحة القهوة تزكم أنفي، وخروجي منه آخر النهار مملوء هماً وضيقاً غافلاً عن أسرتي ونفسي بسبب ضيق صدري مما أسمع وأرى.

وفي كل مقارنة بين البشر وغيرهم أجد نفسي أخرج خاسراً.. لولا الرسالة والتكليف لما كان للنفس قيمة.

(الصورة بعدسة: شيماء kw)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

تعليق واحد على “المدينة الصناعية”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.