التصنيفات
طائر المئذنة

رحيل الحنان

12

– لا أستطيع.. لا أستطيع.. صدقني الأمر يحتاج إلى مدة زمنية، قد تطول وقد تقصر.. وطبيعة مرض الوالدة يحتاج إلى جراحة.. ولذلك لابد من استكمال كل الإجراءات.

– لكن يا دكتور.. والدتي مريضة وهذه حالة طارئة.. وقضية إنسانية..

– أقدر ذلك.. لكن.. لابد من استكمال الأوراق حتى أتمكن من مساعدتك.. إنما يمكنك أن تتصرف بالتنسيق مع مدير العيادة في قبول أمك.. حتى أتمكن من مساعدتك.

تركني وذهب.. رجل من جنسية عربية يعمل عاملاً بأجر لا يكاد يكفيه.. وبالرغم من ذلك يرسل منه لأسرته ويدخر مبلغاً لكي يحضر والدته تزوره بعد أن بقيت وحيدة في بلادها يوم أن سافر وتركها لأجل كسب المعيشة.. وبالفعل جاءت أمه لزيارته.. ومرضت أثناء ذلك.. وأدخلت المستشفى.. ولكن لا بد من الدفع لاستكمال العلاج.. أو بالأصح للبدء في العلاج.

بقيت يومين انتظره ثم جاءني ثانية.. رأيت في وجهه التعب والسهر.. رحبت به.. وأخذت الأوراق منه.. طمأنته ووعدته بالإسراع قدر المستطاع.. وبدأت في تعبئة البيانات المطلوبة.. رفعت رأسي فوجدته ساهما.. تابعت الكتابة.

كانت الحالة صعبة.. تخيلت مقدار الألم الذي تعاني منه العجوز.. ياالله كيف تحتمل كل ذلك وهي المرأة الضعيفة.. وكيف تركت من غير علاج لأنها لاتملك ثمن العملية.. وارتسم في ذهني صورة البعض من ينادون بالمبادئ ويتغنون بها.. ولكنهم لايلبثون أن يتخلوا عن كل شيء إذا جاء موقف يتعارض مع مواقفهم الشخصية.. صورة من صور التجارة بالمبادئ.. يوم أن يغيب عن الطبيب هدف مهنته.. ويصبح يداً تقطع.. لا يداً تعالج. ويصبح الطب تجارة كأي تجارة.. فلا إنسانية ولا رحمة.. بل تسعيرات لكل علاج.. ولكل ابتسامة.

رفعت رأسي ثانية.. بدا كأنه لا يشعر بوجودي معه في الغرفة.. أصدرت حركة تدل على وجودي معه.. نظر إلي بابتسامة باهتة.. فبادرته بالكلام..

– كم عمر الوالدة؟

– 57 سنة.

– وكم ستكلف الجراحة؟

– 35 ألفاً.

نظرت إلى التقرير.. ترى هل تحتاج هذه الجراحة فعلاً إلى هذا المبلغ المرتفع؟.. قلبت في التقارير.. وعدت أفكر ثانية.. ترى هل يدري أن هذا المبلغ هو قيمة المرحلة الأولى فقط؟؟ وأنه سيحتاج إلى ثلاث مراحل بعد ذلك؟

– من الذي ينفق عليها؟

– أنا.

كنت أعلم كل هذه الإجابات.. ولكنني كنت أريد أن أخرجه من همه.. كانت الأوراق مكتملة وفيها كل البيانات.. ولكن نظرة واحدة إلى رجل عزيز وهو مطرق يحمل هماً تكفي لتحريك أكبر الجبال من موقعه.. وكنت أرى الأصابع المتشققة تتشابك وتضغط في ألم وقلق فأشعر بالشفقة.. ليس عليه فقط.. بل على نفسي وعلى كل البشرية.

– يا أخي لا تحمل هما..

– الله كريم.

– كيف حال الوالدة اليوم؟

– …… ماتت.

– ………..

– ………..

ران صمت عميق.. وأرخيت قبضتي على القلم.. شعرت أنني لم أسمع جيداً.. فلا يمكن أن يكون ماسمعته صحيح.. أعدت سؤالي ثانية..

– نعم… عفوا لم أسمع جيدا.. كيف حالها؟

– ماتت..

صمت قليلاً وكنت أنظر إلى وجهه في ذهول.. ثم واصل كلامه.. المستشفى رفض إسعافها إلا بعد دفع الفاتورة.. فماتت قبل وصولنا.

أطرقت برأسي.. وتوقف القلم عن الكتابة.. وتوقف كل شيء فيّ.. هل يكون الطبيب تاجراً؟ لا يقبل أي ضمانات ويرفض قبول مريض فقير في عيادته؟؟ أمسكت نفسي وأطرقت برأسي لكي أخفي دموعي.. وهكذا ففي عالمنا اليوم ولأجل فاتورة… يموت الحنان.

 

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.