التصنيفات
قبور الياسمين

رفيقة الدرب

 

ترافقني دائما حبيبتي، في داخلها كل ما أملك، علي التوجه لعدة دول قبل الوصول إلى هدفي، وعليّ أن أكون حذراً، لا أحد يعرف هدفي من هذا السفر، قررت أن أكون وحيداً زيادة في الحرص، لو تسرب خبر سأمنع من الوصول. اجتزت عدة محطات، بقي علي القليل، بدأت أشعر بوجودي بين المجاهدين، أشعر بروح الجهاد تسري في صدري، أتذكر أنني في سبيل الله، لو مت الآن سأكون شهيداً، أطربني هذا الأمر.

تغيرت نظرة الناس لهذه الكلمة “الجهاد”، أصبحنا ننظر لها بمنظار العدو، نخاف من التلفظ بها، ترتبط لدينا بالقتل والعنف، أشعر بالشفقة على الناس، قد تمر عليك السنة دون أن تطلق رصاصة، عدا ماتطلقه أثناء التدريب، القصف فوق رؤوسنا أكثر في كل الأحوال، لانقتل فرحين بالقتل، نحاول جاهدين أن نجعل القتال الحل الأخير، ونسعى قبل ذلك للحلول السلمية كما يقولون، هذا هو “الجهاد”.

وصلت للمحطة قبل الأخيرة.. أخذت تاكسي وطلبت منه التوجه للفندق..

–        يبدو أنك غريب؟

–        نعم.

–        لماذا أتيت هنا؟

–        سياحة، أتيت أرى هذه المناظر وابتسمت له.

–        ستعجبك بلادنا.

–        أعجبتني.

–        ألا تخاف الحرب؟

–        الحرب! هل هي هنا؟ أبديت استغرابي..

–    لا. إنها بعيدة، ولكن الدولة كلها في حرب. النتائج ستلاحقك أينما كنت، سواء أكنت في الجبهة أم كنت في مكان بعيد، الرجال سيذهبون من كل مكان، يبقى الفرق في الرؤية للقضية.

–        أعجبتني فلسفته، بدا لي كلامه مثقفاً وفيه واقعية وخبرة حياة، قلت: أحب المغامرة.

–    ضحك وقال: شباب شجاع، كنت مثلك يوماً ما، التاريخ كما يقولون يعيد نفسه، أدركت مثلك حروباً ولكنني شاركت فيها التفت إلي في فخر، وتابع: ربما لم تر حرباً في حياتك.

–        لا.

–        غمغم بكلام وصلتني منه كلمات متفرقة، الحرب لعنة، تعب، ثم قال بصوت واضح: بصراحة من حسن حظك، تكاليف الحرب باهظة.

–        مال؟

–        مال، وأسرة، وقلوب، ودماء لاتدري لماذا أريقت.

–        كم بينكم وبين الجبهة؟

وانطلق يشرح لي جغرافية المنطقة، كنت أريد أن أعرف كيف يمكنني الوصول إليهم، أخذني لفندق مدحه لي، وفي نفس الوقت قريب من وسط المدينة. عرفت من كلامه طريقة الوصول إلى المكان الذي أريد، ومواعيد تحرك الحافلات، وعرفت أن بيني وبين موعد الرحلة أربعة أيام، كيف سأقضيها؟

أتيت سياحة، وهذا يعني أنه لا بد أن أخرج من الفندق وأتحرك وإلا سأثير الريبة حولي، في الفندق الذي نزلت فيه كان يجلس مجموعة من الضباط في الجيش، عليّ أن أكون حذراً في دخولي وخروجي، لكيلا يروني. لم أكن حريصاً على الاحتكاك بهم أبداً، لمحني احدهم وظل ينظر إلي في شك، توقعت أن يقوم ويسألني عن سبب وجودي هنا، وضعت قبعتي على رأسي وأخفيت جزءاً من وجهي وخرجت من الفندق، الجو في هذه البلاد جميل، الأشجار في كل مكان، بالنسبة لرجل قادم من الصحراء يمثل هذا المنظر قمة الإغراء، وصلت لسوق صغير، دخلت أحد المحلات، وجدت البائعة وحيدة، حين رأتني وقفت وابتسمت، فتاة في التاسعة عشر، لاأكبرها كثيراً، المحل يبيع هدايا، قلت لها أريد هدية لصديق، ابتسمت:

–        صديق؟!.. .. أم صديقة؟

–        ابتسمت: لا فرق.

–        أخرجت لي مجموعة من الصلبان، وضعتها أمامي وقالت: هذه مجموعة مميزة.

–        ولكن الصليب يوحي بالموت.

–        ترددت ثم قالت من زاوية نعم، ولكننا نحتاجه هذه الأيام، نريد أن نشعر بالأمان.

الكل يقول نفس الكلام، من المتسبب في ماجرى؟ لا أحد يتهم نفسه، الكل مقتنع أنه مصيب، شكرتها على ذوقها وخرجت دون أن أشتري شيئاً.

استيقظت مبكراً في اليوم التالي، في المساء قالت لي الموظفة أن هناك رجلاً يشبهني في الفندق، ولكنه لايخرج كثيراً من غرفته، خفت قليلاً، تمنيت أن أراه، ولكن خفت أن يكون لقائنا سبب للاشتباه بي وتعثر رحلتي.

–        ذلك اليوم رأيته، كنا نستعد للصلاة، وفجأة التقينا، وقفنا لثوانٍ مندهشين من رؤية بعضنا، ثم ابتسمنا، بدون مقدمات سألني: صليت؟

–        لا، سأصلي الآن.

–        إذاً نصلي سوياً؟

–        بالتأكيد.

–        صلينا في غرفتي، وبعد الصلاة لم نتحدث مباشرة، ظللنا صامتين ننهي الأذكار، ثم قطع الصمت سؤاله: ستذهب؟

–        نعم.

–        الطريق مغلق.

–        .. ..

–        على كلٍ، انتبه لنفسك.

–        هل كنت هناك؟

–        نعم.

–        لماذا خرجت؟

–        لماذا أجلس أكثر؟

–        .. ..

–        عندي ارتباطات أخرى.

لم أفهم أن يكون للرجل ارتباطات تبعده عن الجبهة، لم أجادله، ولم أقل شيئاً يخص أفكاري. ابتسمت وتابعت الأذكار.

–        سيعجبك المكان، لو تمكنت من الدخول.

–        ماذا يفعلون؟

–        ألقى بجسمه للخلف وابتسم، كل شي تتخيله. يلعبون، يعلّمون، ويقاتلون.

–        كثيرون؟

–        لا، العدد قليل، قليل جداً، يحاول الإعلام في الداخل تضخيم الأمر ليبدو الأمر وكأنه اعتداء عليهم، بينما يكتمون القضية في الخارج.

–        كيف تمكنت من الدخول؟

–        موظف مع جهة رسمية.

–        لم أفهم، ولم أشأ سؤاله عن معنى هذا، غيرت مجرى الحديث: متى ستذهب؟

–        إلى؟

–        إلى المكان الذي ستذهب إليه.

–        ابتسم: وتقصد إلى بلدي؟ حسناً يفترض أن أغادر اليوم في الظهر.

افترقنا بعد الصلاة، لم يسألني عن شي، ولم أسأله، لم أره بعد ذلك، ولم أعرف حتى اسمه أو بلده.

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: الوداع>  يتبع > الحلقة التالية: في الطريق)

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

3 تعليقات على “رفيقة الدرب”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.