التصنيفات
قبور الياسمين

في الطريق

حان موعد رحلتي، كنت قد ذهبت قبلها بأيام وتأكدت من مواعيد الرحلات، بالفعل كما قال لي السائق كانت الأمور مرتبة جداً، الحافلات تتحرك بمواعيد ثابتة، النظام يميز كل شي هنا، حملت حبيبتي وانطلقت، وصلت قبل تحرك السيارات، كان الكل ينظر إلي فشكلي غريب نوعاً ما، هذه الرحلة من أخطر رحلات حياتي، فوجودي هنا يعني أنني أريد الدخول إلى منطقة الحرب، ومعنى هذا أنني أريد الوصول إلى المسلمين المحاصرين.

حاولت الاحتفاظ بهدوئي قدر استطاعتي، ذهبت إلى شباك التذاكر، مددت النقود وتحت نظرات الموظف المتطفلة أخذت تذكرتي، توجهت إلى الرصيف المخصص للرحلة، وبعد دقائق تحركت الحافلة، سارت بنا يوماً كاملاً، وصلنا في الليل لمنطقة مزدحمة توقفت فيها السيارات.

–        ما الذي يجري هنا؟ سمعت السؤال في الخارج.

–        الطريق دمر بسبب الحرب، قصف ليلة البارح، ويبدوا أننا لن نستطيع الاستمرار فيه.

ضاق الناس، وبدأ يخرجون من الحافلة، توجهت لشخص وسألته عن القصة، أخبرني بالأمر.

–        قلت وماذا ستفعلون الآن؟

–        أجاب وهو يشعل سيجارته: هناك طريقة واحدة، وهي أن نلتف حول الطريق عبر البحر، هناك عبّارات يمكن أن تحملنا إذا دفعنا لها مبالغ طيبة.

–        هل ستذهب؟

–        نعم.

–        هل يمكنني مرافقتك؟ سأتكفل بالمصروف إذا شئت؟

–        بالتأكيد يمكنك.. لنتحرك الآن.

تفاهم معهم بشكل سريع، ولم نكن الوحيدون هنا، فهناك الكثير غيرنا، اتفق مع العبّارات على نقلنا واجتياز المنطقة المدمرة، افترقنا حين ركبنا العبارة، بقيت لوحدي أراقب النجوم، كان الليل جميلاً، والهواء لطيف، هياكل السيارات المعدنية جعلني أشعر بالبرد، كنت أسمع كلمات تخترق الليل ولكن لم أفهم معناها، لغة البلاد غريبة على مسمعي.

سلكنا طريقاً آخر إلى الهدف الذي نريد، دوران بسيط أخذ بضعة ساعات، وعدنا بعده إلى الطريق البري، كان هناك حافلات تنتظر وكأن الأمر مرتب منذ البداية، ركبت بتذكرتي السابقة حافلة أخرى، وتابعت السير بنا وكأن شيئاً لم يحدث، كانت أنفاس الصباح توقظ في داخلي مشاعر مختلفة، العالم هنا يتحرك مع نسمات الصباح، في العبارة صليت الفجر، كنت حريصاً الآن على إخفاء أني مسلم، وكان الجو قد بدأ في البرودة، تعجبت في البداية من تغير الجو بهذه الصورة، ثم تعودت عليه فلم أعد أشعر بالعجب من ذلك.

توقفنا في نقطة التفتيش، وصعد رجال الشرطة، فهمت من محدثي أن هذه آخر نقطة تفتيش في طريقي، بدأت أدعو أن ييسر الله لي الأمر فلا يشتبهون بي، توقف الشرطي طويلاً ونظر إليّ، طلب جوازي وذهب، فوجئت عندما علمت أن معظم المسافرين من المسلمين.. هم أشاروا إلي بذلك لأفهم، ترجم لي واحد كلامهم.

–        يسألونك: ماذا تريد هنا؟

–        سياحة.

ابتسم وضحك البعض، وبقيت صامتاً.

–        مجاهد؟

سكتت..

–        أتعرف أننا مسلمون،

–        ابتسمت له قلت الحمد لله.

–        قال: لا تخف، سنساعدك، كلهم يقولون مثلك، ونحن نبذل جهدنا لمساعدتهم.

لم أرد عليه.

 انتظرنا وطال الانتظار، مرت عدة ساعات عاد الشرطي بعدها، نظر إلي وتكلم معي، قلت لا أفهم ماذا تقول، أشرت إليه أنني سائح مردداً كلمة سائح بالانجليزية، ضاق بي رمي لي جواز سفري وخرج.

–        سألت السائق: هل يمكن أن أخرج قليلاً؟

–        أشار إلي إشارة فهمت منها أنه لابأس، وقال لي أحد الركاب حاول أن تبقى قريباً.

خرجت من الحافلة، كانت المنطقة آهلة، الناس يتحركون، والسيارات تعبر دون مشاكل، باستثناء الحافلات وبعض السيارات الصغيرة، ربما كان لديهم مشكلة في الأوراق، استنتجت ذلك من النقاش الحاد بينهم وبين الشرطة، بعضهم كان يعبر في النهاية، والبعض كان يذهب للمكتب في الجهة المقابلة ويخرج بعد قليل وهو يتأفف ومعه ورقة تسمح له بالعبور، ربما تكون مخالفة حرروها له.

اصطف في هذه الناحية مجموعة خدمات، مطعم، ومحل ملابس، وحانوت غذاء، وغيرها، التفت إلي أحد الركاب يتكلم انجليزية مكسرة، قال لي لاتبتعد، حاول أن تكون قريباً، من أجلك أنت، لو ابتعدت فلن يلاحظ أحد اختفائك وغمز لي بعينه في إشارة معبرة. فهمت ماذا يقصد فأخذت حذري. أنسى أحياناً أنني في دولة حرب، أنسى أنني عدو متوقع بالنسبة لهم، أو لنقل عدو افتراضي، في نهاية الصف لافتة تشير إلى دورات مياه، توجهت إليها، حين أردت الدخول فوجئت بأن الدخول برسوم، ضحكت وسألت الحارس.

–        كم تريد؟

–        نصف عملة.

–        لم أفهم، فأخرجت مامعي من قطع النقود ووضعتها بيدي، قلت له: أي واحدة تريد؟

–        أخذ قطعة وسمح لي.

المكان نظيف بالرغم من إنه طريق سفر، جددت وضوئي، ثم خرجت واشتريت وجبات خفيفة وحلويات وأموراً أخرى من لوازم السفر، اشتريت لنفسي ولجميع من في الحافلة، وعدت للحافلة مرة أخرى، ركبت وأخرجت مامعي من الكيس وبدأت أوزع عليهم. همهمات شكر وصلتني، ونظرات مودة شعرت بصدقها قابلتني، ومن ثم عدت لمكاني انتظر.

قبور الياسمين

(الحلقة السابقة: رفيقة الدرب>  يتبع > الحلقة التالية: وصول ورحيل)

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

بواسطة عبدالله السعد

بين يوم ولادتي وحياتي الحالية أحداث كثيرة..

ماسأدونه هنا بإذن الله يمثل قطعاً من البزل..

ومجموع القطع يصور سيرتي الذاتية..

4 تعليقات على “في الطريق”

اترك تعليقاً

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.