التصنيفات
طائر المئذنة

الزهرة

الزهرة

رفع الدكتور إبراهيم عينه ونظر إليها وابتسم.. وأخذ يحدث نفسه.. امرأة ستينية أرملة تسمى “زهرة”.. نعم ربما كانت زهرة ولكنها ذبلت الآن وألقيت فلم نعد نرى جمالها أو نشم أريجها.. وبهدوء خاطبها قائلاً: تفضلي يا أماه لكي نكمل البيانات.

وأخذ إبراهيم يفكر.. ألا يكفي أنها ذابلة لكي تحيا بعيداً عن بستانها؟ ومع حبه الشديد للورود إلا أنه شعر أن كل الياسمين، النرجس، الجوري، الزنبق، البنفسج.. وغيرها وغيرها لم تعد تحمل أي شيء من صفاتها بعد رؤيته “لزهرة”.

التصنيفات
طائر المئذنة

الأجنبي

Picture14

لن أحاول أن أكتب الأمر وكأنه قصة قصيرة، ذلك أنني أنتقد الكثير من الشباب ممن يبحثون عن الألفاظ الصعبة ليكتبوا مقالاً أو قصة.. ولكنني باختصار أريد أن أكتب قصة صاحبي. لمن أكتبها؟ ولماذا؟ لا أدري في الحقيقة، كل الذي أعرفه أنني لابد أن أكتب عنه وأوفيه شيئاً من حقه في واقع أنكره وتجاهله.

وقف أمامي بقامته الممشوقة وأشار إلى صدره بكلتا يديه ثم قال بأسلوبه المثقف جداً:

–        لنكن واقعيين، فأنا مهما يكن “أجنبي”. وطرح يديه إلى جنبه في حركة تدل على تذمر وألم.

لم أحاول أن أقاطعه.. بل حتى الابتسامة التي أحتفظ بها حين أراه شعرت أنها قد لاتكون مناسبة. ولذلك لم أعلق بأي شيء.

–        الأولاد كبروا يا عزيزي.. ومهما يكن فلهم مطالبهم. غداً سيبحثون عن جامعة تقبلهم، ولن تتسنى لهم الفرص لأنهم “أجانب”.

مد رأسه باتجاهي ليرى تأثير كلامه علىّ.. ثم تابع كلامه بنفس الأسلوب المرير:

–        وإذا عادوا إلى بلادي ماذا سيحدث؟ سيقال لهم أنتم “مغتربون”. في بلادي يقال لي “مغترب”، وهنا يقال لي “أجنبي”، فقل لي بالله عليك ماذا أفعل؟.

لم يكن سؤاله مما ينتظر جوابه.. ولذلك بقيت محافظاً على صمتي. كنت أشعر أنني في قفص اتهام، وأنني مدان، وأن صاحبي سيقول لي في أي لحظة أنت تتحمل جزءاً مما أنا فيه، وهكذا بقيت ملامحي كلها تنتظر اللحظة التي ينفجر فيها صاحبي.

–    عاد يتابع كلامه في انفعال حزين: أنت في بلادك.. إذا ضاقت بك الأرض توجهت إلى الجبل أو إلى الصحراء وبقيت مع بعض الشويهات وانقطعت عن العالم.. من الذي سيبحث عنك؟ لاأحد.. أنا وأشار إلى صدره، أنا لا أستطيع فعل شيء بسبب كوني أجنبي.

–    سبحان الله.. بقيت أتأمل وجهه الأسمر ولحيته البيضاء، كان في العقد الرابع، في أواسطه فيما يبدو لي، وربما في أخره أو بداية الخامس.. وكنت أتعلم منه الكثير.. وأجد في صفاء نفسه صورة فريدة للماضي الجميل. ومع ذكره للجبال عدت إلى موطني.. أحقاً يمكن أن أجد فيه الاستقرار.. ولكنني تركته بحثاً عن رزقي، تماماً كما فعل هو، الفرق بيني وبينه أنني لست بحاجة لكثير  من الإجراءات التي يمر بها صاحبي حين يرغب في السفر.

أردت أن أشاركه في حزنه.. كنت أتمنى لو أستطيع فعل شيء من أجله، ليس مساعدة مني، ولكن لأن هذا واجب علي تجاهه.. إنه مكسب لابد من المحافظة عليه. أفقت من تأملاتي على صوته.

–    أتعلم أنني أتكفل بتذاكر الأولاد؟ إذا جاء أحد منهم أو جددت له أوراقه أو أي مصاريف تخصهم فأنا وحدي من يدفع.. الشركة لاتدفع لهم شيئاً.. ولذلك فأي إجازة تعني الكثير  بالنسبة لي.. واعتمدت على نسبة الأرباح في الشركة، ولكنها تتدهور. ماذا أفعل يا أخي؟

ظللت محافظاً على صمتي.. ثم رأيت أنه من اللائق أن أقول شيئاً.. ربما لاينتظر مني جواب سؤاله، ولكنني بلا شك كنت مديناً له بشيء. ماهو؟ لا أدري، ولكن شعور الاتهام ظل مسيطراً على مشاعري فحاولت التملص.. قلت له بتلعثم:

–        المهم أن تتأكد أنه ليس لي ذنب في هذا.

شعرت أن ردي ليس في محله، كان يبتسم في مرارة، ربما كان من المناسب أن أظل صامتاً.. وشعرت بالارتباك.

أشار إلي بيده، ثم مسح شعره وقال بنفس الإيقاع الحزين:

–        لا عليك.. نحن نخدع أنفسنا ببعض العبارات، “الأشقاء العرب”، “إخواننا العرب”، ولكن في الحقيقة أنني أجنبي!

 قال ذلك وأمسك بقميصه ورفعه كأنه يثقل عليه ويريد التخلص منه.

لم أرد عليه.. ظللت أنظر لأصابعي وهي تقرع الطاولة دون أن تحدث صوتاً ثم قطع علي تأملاتي:

–        أتدري، قبل شهر زوجت ابنتي.. أردت العودة بزوجتي وأولادي.. ضاقت الأمور قليلاً.. قالت لي زوجتي إلى متى؟ شعرت أنني تعبت وقتها.

أحسست به في تلك اللحظة.. ربما أكون قد مررت ببعض الظروف المشابهة ولذلك فهمته.

–        إلى متى؟، إلى متى؟ ألقى برأسه إلى الخلف وأخذ يراقب السقف.

قطع كلامه رنين الجوال.. تأمل قليلاً في الرقم، ثم رد على المتصل في مرح.. كلمات بسيطة أنهى بعدها المكالمة وحاول أن يسألني عن أمور حياتي.

عاد للوقوف ثانية، ونظر إلى الخريطة المعلقة خلفه وأشار بحركة عشوائية.. احتوت حركته الخارطة كلها. لم يقل شيئاً.. تعبيره هذا أبلغ من قوله.

تمنيت أن أقف وأعانقه، شعرت بقربه، حاولت أن أعبر، خانني تعبيري.. لم أجد عبارة تناسب شموخه.. عظيم أنت يا أخي. عظيم أنت. ابتسمت له رد عليّ بابتسامته المشرقة. ضرب فخذيه وقال:

-هيا بنا، قم بنا لنتناول الغداء معاً.

(تصميم الصورة: هنادي الصفيان)

Creative Commons License
كتاب آت by Abdullah Ali is licensed under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-NoDerivs 3.0 Unported License.
Permissions beyond the scope of this license may be available at www.aalsaad.com